حقائق24
تعيش مهنة صناعة الأسنان بالمغرب على صفيح ساخن، بعدما أطلقت السلطات المحلية، بتنسيق مع المجلس الوطني لهيئة أطباء الأسنان، حملة غير مسبوقة لمعاينة و إغلاق محلات صناع الأسنان في عدد من المدن، خاصة بجهة سوس ماسة، بدعوى “مزاولة المهنة دون ترخيص”، وهو ما خلّف حالة من الاستياء والغضب في صفوف العاملين بالقطاع، الذين اعتبروا أن ما يجري حملة ممنهجة تهدف إلى إقصائهم قسرا من سوق الشغل، دون توفير بدائل قانونية أو فتح حوار جدي حول تأطير المهنة.
ورغم أن مهنة صناعة الأسنان تشكل دعامة حقيقية لقطاع الصحة الفموية، وتلبي حاجيات فئة عريضة من المواطنين محدودي الدخل الذين لا قدرة لهم على تحمّل كلفة العلاجات المقدّمة داخل عيادات أطباء الأسنان، إلا أن السلطات اختارت منهج المقاربة الزجرية بدل المقاربة التشاركية. فقد باشرت السلطات المحلية تنفيذ تعليمات المجلس الوطني لأطباء الأسنان، عبر معاينات فجائية لمحلات الصناع، وتحرير محاضر في حقهم، وإصدار قرارات بالإغلاق، في غياب أي حوار أو إشراك فعلي للمعنيين بالأمر.
وتتجلى بوضوح نية السلطات في فرض الأمر الواقع، دون أي اعتبار للسياق الاجتماعي والاقتصادي الذي يشتغل فيه صناع الأسنان، حيث أقدم أعوان السلطة في عدد من المناطق على مداهمة محلات قائمة منذ سنوات، واتخاذ قرارات بالإغلاق الفوري، دون منح أي مهلة أو بديل، وهو ما اعتبرته النقابات المهنية تضييقًا غير مقبول، وخرقًا لمبدأ تكافؤ الفرص، وانتهاكًا للحق الدستوري في الشغل والكرامة.
نقابات تدخل على الخط وتندد بـ”الاستهداف”
نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب بجهة سوس ماسة عبّرت عن تضامنها المطلق مع صناع الأسنان، ونددت بما وصفته بـ”الحملة المسعورة التي تستهدف هذه الفئة الهشة”، مطالبة بفتح نقاش وطني حول تأطير المهنة بدل محاربتها، ومحذّرة من تداعيات المساس بأرزاق المئات من الأسر التي تعيش من هذه الحرفة.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه هيئة أطباء الأسنان أن الممارسة يجب أن تكون تحت إشراف الطبيب، وأن أي نشاط خارج هذا الإطار يعد “غير مشروع”، فإن صناع الأسنان يردّون بأنهم لا يمارسون أي اختصاص علاجي، ولا يتعاملون مع المرضى، بل يشتغلون حصريًا على إعداد وتركيب الأطقم الصناعية، وهي مهام لا تتطلب تدخلاً علاجياً أو وصفة طبية.
المفارقة القانونية وازدواجية الخطاب
ورغم الإشارة المتكررة في المراسلات الرسمية إلى ضرورة احترام مقتضيات المادة 3 من القانون رقم 07.05، إلا أن واقع الحال يكشف عن فراغ قانوني كبير، وعدم وجود نص تنظيمي واضح يؤطر مهنة صناعة الأسنان كمجال مستقل، وهو ما فتح الباب أمام تأويلات متضاربة، تُستعمل في كثير من الأحيان لتبرير قرارات تعسفية تضرب في العمق مبدأ الأمن الاجتماعي.
وفي هذا السياق، يشير عدد من الفاعلين الجمعويين والحقوقيين إلى أن القوانين المغربية لا تجرّم صراحة حرفة صناعة الأسنان، بل تفتقر فقط إلى آلية قانونية تنظمها، الأمر الذي يُفترض أن يكون دافعًا نحو التشريع بدل الزجر.
صناع الأسنان يطالبون الإنصاف
الصناع المتضررون من هذه الحملة يطالبون اليوم بوقف فوري لكل أشكال التضييق، وفتح ورش حوار وطني تشاركي يشمل وزارة الصحة، ووزارة الشغل، والهيئات المهنية والنقابية، من أجل تقنين المهنة، وتحديد مهام واضحة لها، على نحو يضمن الحق في الشغل، ويصون كرامة الصناع، ويحمي صحة المواطن في الآن نفسه.
في ظل غياب قانون ينظم مهنتهم، وتوالي التعليمات الإدارية التي تطالب بإغلاق محلاتهم، يجد صناع الأسنان أنفسهم في مهب قرارات لا تراعي واقعهم ولا تعترف بتضحياتهم، رغم دورهم الكبير في سد خصاص واضح في قطاع العناية بالأسنان في المغرب.
فهل من المعقول أن يُحاصر هذا القطاع دون بديل؟ وهل يُعقل أن يُغلق باب رزق فئة اجتماعية بأكملها، دون حوار ولا مقاربة تشاركية؟ إنها أسئلة باتت تُطرح بإلحاح، في انتظار أن تستفيق الجهات الوصية من سباتها وتستوعب أن التنظيم لا يجب أن يكون أداة إقصاء، بل بوابة اعتراف وإنصاف.
تقنين بدل “تجريم”
إن ما يحدث اليوم من حملة إغلاق وقمع مباغت في حق صناع الأسنان، لا يجب أن يتحول إلى عنوان لمزيد من التهميش والإقصاء. بل يجب أن يُقرأ كإشارة ملحّة إلى ضرورة تسريع إخراج إطار قانوني منصف ينظم هذه المهنة، بدل تجريمها بصيغة غير مباشرة.
صناع الأسنان لا يطالبون بالمستحيل، فقط بالاعتراف بدورهم، وتقنين أوضاعهم، بما يحفظ كرامتهم ويخدم صحة المواطنين. فهل تلتقط الجهات الوصية هذه الرسالة قبل فوات الأوان؟.