الرأي

شبكات التواصل الإجتماعي .. فضاء مفتوح على مصراعيه

د. عمر حلي _

من آفات الشبكات الاجتماعية أنها قائمة على النقر. النقر الجماعي… الشبيه باللغو في أغلبه، إذ فيه الكثير مما يحتاج غربالا وقلما نستفيد منه.

ولهذه الغاية، لا يجب أن نعتقد في الشبكات الاجتماعية إلى حد السقوط في وهم كونها تعوض الواقع. فبقدر ما تشكل الشبكات الاجتماعية أدوات للتواصل ولإشاعة الخبر، بقدر ما تعمل كذلك على تقويض مساحات التواصل نفسها. يتم ذلك تماما كما يتم اليوم خلط الدين بالإرهاب أو جعل العملية السياسية
رديفا للفساد.

يجب أن نلاحظ اليوم كيف أن الوقوف على فكرة التواصل نفسها وتحليلها، يجعلنا نتبين كيف أن هناك خرقا لخطاطات التواصل التقليدية. فالمرسل في الشبكات الاجتماعية سرعان ما يتقمص دور المتلقي في الوقت نفسه، بفضل التتبع الذاتي الذي يؤمنه لكل ما يصدر عنه وبفعل إحداثيات تجعل رأيه حول ذاته أو حول ما ينشره أهم بكثير مما يحدثه في المتلقي، كما غدا هذا الأخير هو الآخر محاسبا على ردود فعله الموزونة والمحكوم عليها من طرف الباث (كي أتجنب الحديث عن المرسل).

إن تأملا عميقا في شبكات التواصل يجعلنا نشعر بأن الخطاطة التي كان ياكبسون قد استقاها من علماء الاتصال تعود إلى أصولها، أي إلى وضعية تجعل الباث يدرك مآل رسالته ويتأكد منه ماديا، عبر النقر والاقتسام في حالة التفاعل الإيجابي، وعبر التعليق المناقض أو الناقد أو الناقم أو عبر الحجب (البلوكاج) في حالة التفاعل السلبي.

تم ذلك كما لو أن الذوات أصبحت معزولة عن واقعها، مع المعطى الجديد الذي حملته شبكات التواصل الاجتماعي، والمتمثل في التساهل الكبير في قبول التشبث بالشيء ونقيضه، أو على الأقل في قبول متلق يبدي إعجابه بشيئين متوازيين لا يلتقيان: إما في شكل تعبير عن إعجاب بشخصين لا تجمعهما أية وجهة ولا توحدهما أية طريق، او في شكل انخراط هستيري – في بعض الأحيان – في موقف والدفاع عنه والتعلق الأجوف بموقف نقيض له في الوقت ذاته. وهذا ما يفسر كيف أن هناك تغيرا في سياقات التلقي وفي وظائفه، لأن الأمور أصبحت تتم دون احتساب الوقع الذي قد يحدثه التعبير عن الشيء ونقيضه أو عن الإعجاب بنقيضين متوازيين.

دلالات ذلك كله تجد أصولها في شيئين اثنين في جديدا.
1. في التحول المجتمعي والايديلوجي والقيمي الذي جعل سلمية تلك القيم تنقلب رأسا على عقب، بفعل الإماتة الممنهجة التي عاشتها المفاهيم المؤسسة للفكر الكلياني totalitaire، والذي – شئنا أم أبينا – نشأت عنه سلطة للجماعات على الأفراد، مهما كانت تلك الجماعات، سياسية أو عشائرية أو أسرية أو قومية (وطنية)، لأنها في الأحوال كلها كانت تلعب دور الرقيب.

2. في الربط بين فعل الشبكات وتأثيرها في سياقات محددة (حالة ما يسمى بالربيع العربي مثلا) وبين فكرة أنها متعالية ويمكن أن تحدث الصدى نفسه في كل السياقات وفي مختلف الأزمنة (حالة الدعوات الفردية أو تلك التي تدعو إليها مجموعات صغرى للاحتجاج على إثر حدث أو حادث ما لا يثير الجميع فيراوح مكانه).

وأعتقد جازما أن من لا يدرك وجود المحركات الكبرى التي تفعل فعلها في التوجيه والتأثير وفي تحديد سرعة الرياح والموانئ التي يجب أن ترسو فيها البواخر، لا يدرك مغزى “الوقع” والأثر” وشروط تحقيقه. فمن لا يعلم أن وراء الشبكات رهانات فكرية ولكنها اقتصادية في العمق، وتواصلية ولكنها ايديلوجية في المآل، لا يبصر من القمر إلا إشراقه ويتجاهل جهته المظلمة. وهذا ما يفسر أن هناك دعوات وأفكارا تلقى الصدى المرجو من وراء إثارتها، وفي المقابل هناك دعوات أخرى يتم وأد أثرها مع أنفاسها الاولى.

وفي هذه الحالة الأخيرة، لا يكترث أحد بفشل الدعوة ومحدودية انتشارها، بل وقد لا يفقه حاملوها شيئا في ميكانزمات ذلك الفشل، فتخبو مصابيحها كما تخفت المصالح الذاتية لأصحابها.

في الحالة الأولى، تتعرض الحملات لخطرين اثنين:
– أولهما خطر التآكل الذي يحدث بفعل الاجترار الزمني، وما يحمله معه من ملل متناقض تماما مع السرعة التي تقوم عليها الشبكات العنكبونية، إذ كلما زاد عمر الشيء التواصلي قل وقعه، خاصة إذا لم يحدث ردود الفعل المتوقعة.

– وثانيهما خطر القنابل العنقودية الناشئة من فعل أول مؤسس وواضح، تلك التي تتلو الحدث كالمفرقعات هناك وهناك، وتشتت الانتباه، بل وتضفي على الموقف الأول صبغة التبسيط والاختزال، بمنحها صفته لكل الوقائع المتفرقة ومساهمتها، من تم، في تشتيت الانتباه وتمييع الصيرورة، تماما كما حدث مع المقاطعة الأخيرة التي هزت العالم الأزرق بمختلف مدن المغرب.

وفي الأخير، فإن من أخطار شبكات التواصل الاجتماعي، تحول المرتفقين، بفضل انتشائهم الذاتي، إلى مقدمي نشرات الأخبار (لاحظوا عدد الذين أخبرونا بدخول شهر ذي الحجة وبتاريخ عيد الأضحى، مع العلم ان هذه الوظيفة الخبرية كانت تبثها النشرات بعد أن تقوم الوزارة المعنية بواجبها في مراقبة الهلال)؛ أو إلى مخبرين يأخذون صورا عن محادثات خاصة ويخبرون بها “جهة العدو” الافتراضي المفترض، ثم من آفاتها أن شجعت السرقات الفكرية والأدبية وطمست حقوق التأليف.

ولكي أعود للبداية، تحدث هذه الأشياء كلها، نظرا للتصدع الحاصل في خطاطات التواصل وفي تصدع القيم الذي صاحبه. فمن لا يميز لا يحسن الحكم، ومن يقبل تغييب المواقف لن يضره في شيء عبث المسارات، كما أن من يحرسون الرحى يسمعون الجعجعة ولا يهمهم إلا الطحين. وطالما أن بين مرتادي الشبكات من يصدرون الحكم دون أساس معرفي وفلسفي، أو يتربصون ببعضهم البعض كالبصاصين في الأزمنة القروسطية، وطالما أن هناك من يعبر عن انزعاج لأن بعض الأصدقاء لا يعبرون عن إعجابهم بما ينشره، وطالما أن المرء قتله “الردة، وقتله أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده”، فلا يجب ان ننتظر من الشبكات أن تغير العالم، ولا يجب أن يحلم أصحابها بعالم سعيد، لأن خلف كل خبر يموت، خبرا جديدا.

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى