ثقافة وفن

إبراهيم الكوني: فيلسوف النهضة الأمازيغية محتفَى به في بلاد “العرب”

عبد الله الفرياضي

في عُقْر بلاد العرب، وعلى شاطئ خليجهم الدافئ، ما يزال جبل “الفايَة” قائمًا يحرس بشموخ الأطْوادِ، آثارَ ماضٍ سحيقٍ، ليبلِّغ إلى العالم تلك الرسائل المخبوءة في جوف أساطير مدينة تليدةٍ كانت هناك.. مدينة “ساركوا”.

وفي “ساركوا”.. تلك المدينة التي صرنا ندعوها اليوم “شارقةً”، اختار أولو الحل والعقد الثقافي [بمناسبة الدورة الـ “42” من معرض الشارقة الدولي للكتاب]، أن يعلنوا الأديب والمفكر “إبراهيم الكوني”، شخصية العام. نعم، فبكل الجدارة المستحقة، اختار “عرب الشرق” الاحتفاء بأحد أعلام الفكر، والأدب من “أمازيغ الغرب”.. حدث ذلك يوم [18 أكتوبر 2023].

المفارقة الفادحة، المثخنة بالدهشة والوجع، تكمن في أن سواد أمة الأمازيغ، لا يكادون يعلمون أن المحتفى به هو الحارس الأمين لأساطير مِلَّة أسلافهم الطاعنة في الأَزَل. أما الأَدْهى، والأَمَرُّ فكونهم لا يعلمون أساسا أن من يحتفي به العرب في “مشارق الأرض”، هو سليل سلالتهم، التي كادت أن تصير بين الأمم نَسِيَّا مَنْسِيًّا!

قد يغفر التاريخ، لجمهور الأمازيغ جهلهم بحقيقة انتساب “الكوني” إلى مِلَّتهم، وسيلتمس لهم العذرَ في لغته العرفانية المتعالية، وأسلوبه السردي المثقل بالأسطورة والرمز، والمفعم بالتورية والمجاز. غير أن التاريخ ذاته، ولا ريب، لن يغفر لأفراد تلك الزُّمْرة الموصوفة نخبةً من “ولد مازيغ” [بلفظ ابن خلدون ورسمه]، جحودهم، وتنكرهم للرجل، وهم يعلمون علمَ اليقين أنه لم يكن مجرد “نطفة” من صُلبِهم، أو محضَ رقم ينضاف إلى “سواد” أمتهم [لتفاخر به الأمم].

صحيح أن الكوني قد ألف عشرات العناوين السردية، والفكرية بلغة الضاد، فتفوق في الكتابة بتلك اللغة على أبلغ من رضعوها رأسًا من أثداء أمهاتهم، حتى حق له أن يردد مع المختار السوسي قوله متفاخرا في المعسول – ج 1 -: [الحمد لله الذي هدانا حتى صرنا – نحن أبناء إِلْغْ العجم – نذوق حلاوتها – أي اللغة العربية – وندرك طلاوتها، ونستشف آدابها، ونخوض أمواج قوافيها، حتى لنعد أنفسنا من أبناء يعرب وإن لم نكن إلا أبناء أمازيغ]. غير أن اللغة العربية – في نازلة الحال – لم تكن بالنسبة للكوني غير حامل لمحمول أكبر منها. ذلك المحمول الذي لم يكن أقل من ثقافته الأمازيغية الثرية، وقضايا أمته الأمازيغية الحارقة.

أتذكر أنني حضرت حفل تكريمه شهر دجنبر 2022 بمدينة أكادير، فسمعته يقول: [لغتي الأم هي الأمازيغية، وكل لغة تعلمتها هي ولادة جديدة بالنسبة إلي]. الكلام نفسه، وإن بصيغٍ مختلفة، سبق لي أن سمعته منه في حوارات كثيرة، وقرأته له سردًا في رواياته، ونثرا في كتاباته الأخرى. لكن الذي أثار انتباهي، هو تناغم ما قاله الكوني، مع ما سبق وكتبه أديب أمازيغي آخر هو “محمد شكري”. فقد قرأت في مجلة مجرة – عدد 7 يوليوز 2003 – قول شكري: [اللغة العربية بالنسبة لي، إذن، أداة اغتراب نسبي، وأداة تواصل مع كل من يتكلمها. بمعنى آخر، في غياب لغتي الأم، تصبح كل اللغات متساوية عندي].

قصارى القول، أن ما حصل لإبراهيم الكوني معنا – نحن بنو جلدته – قد سبق وأن حصل للعلامة “أبي الفرج بن الجوزي” مع قومه حتى قال فيهم: [عُذَيْرِي مِنْ فِتْيَةٍ بِالْعِرَاقِ — قُلُوبُهُمْ بِالْجَفَا قُلَّبُ / يَرَوْنَ الْعَجِيبَ كَلَامَ الْغَرِيبِ — وَقَوْلَ الْقَرِيبِ فَلَا يُعْجِبُ / مَيَازِيبُهُمْ إِنْ تَنَدَّتْ بِخَيْرٍ — إِلَى غَيْرِ جِيرَانِهِمْ تُقْلَبُ / وَعُذْرُهُمْ عِنْدَ تَوْبِيخِهِمْ — «مُغَنِّيَةُ الْحَيِّ لَا تُطْرِبُ»].

وتبعا لذلك، فنحن اليوم مدعوون – أكثر من أي وقت مضى – إلى أن نرد دينًا ثقيلا في أعناقنا إلى هذا الهرم من أهراماتنا، وإلا جاز له أن يقرأ من أناجيل المسيح – مع بعض التحوير – قوله: [لا كرامة لنبي في قومه]. وإذَّاك لا يلومنَّه أحدٌ حين ينشد مع شاعر بني العباس “السري الرفاء” قوله: [قوِّض خيامَك عن دارٍ ظُلِمتَ بها — وجانبِ الذُّلَّ، إنَّ الذُّلَّ يُجتنَبُ / وارحلْ إذا كانت الأوطانُ مَضْيَعَةً — فالمَنْدَلُ الرَّطبُ في أوطانِه حَطَبُ].

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى