النظام الجزائري خطوات خجولة نحو إقامة صلح مع الذات!

أبو هاجر مقدي الكيدالي

اعتاد النظام الجزائري على التجاهل المتعمد لأصوات طالما دعت إلى التعقل في تناول القضايا السياسية، والأمنية، والإقتصادية بما يتناسب مع قيم العدالة والمواطنة، وإلى التعاطي بواقعية مع الطبيعة الجغرافية، والديمغرافية، للجنوب الجزائري والجوار المحادي لهذه المنطقة، وبالتحديد إقليم أزواد [شمال مالي]. وهي منطقة تشكل عمقا استراتيجيا للجزائر من ناحية:
– ما تزخر به من ثروات طبيعية هائلة،
– ولما تشكله من إضافة كبيرة للتنوع الحضاري والثقافي للجزائر،
– ولما تمثله من حصنِ حمايةٍ للأمن القومي الجزائري، بما فيها من تضاريس طبيعية تشكل جزءا مهما من كبرى صحاري العالم، ومن عنصر بشري يجسد درع حماية لمصالح الجزائر أمام أي خطر قد يأتيها من ناحية جنوب القارة حاضرا ومستقبلا.

كلها عناصر مهمة يجدر بالنظام الجزائري التعاطي معها بكل إيجابية، وبعيدا عن محاولات التغيير القسري للعناصر الطبيعية التي أودعها الخالق هذه المنطقة.

كانت بداية هذا النهج في ستينيات القرن الماضي، وذلك بمحاولة تغيير هوية الأرض، والإنسان الذي يقطنها، ابتداءا بالتجارب النووية التي بدأتها فرنسا في صحراء “رقان” سنة 1960م، وتواصلت حتى سنة 1966م، وبلغ إجمالي عددها 177 تفجيرا نوويا، عانت المنطقة على إثرها من تلوث الجو بالإشعاعات النووية، وتلوث المياه، وتشوهات خِلقية للمواليد الجدد، وتفشٍّ للأمراض السرطانية، وإعاقات، وغيرها من الكوارث الطبيعية، التي أنهت الثروة الحيوانية، والزراعية في عموم الصحراء الكبرى، وأورثت المنطقة تشوهات طالت مختلف مناحي الحياة. ثم مرورا بسيطرة التيار القومي العروبي المتطرف من العسكر على مقاليد السلطة في الدولة الجزائرية الوليدة، وهو من كان وصي المستعمر الفرنسي بعد رحيله، حيث عمل هو الآخر على تغيير هوية المنطقة وسكانها، فلم تسلم منه حتى أسماء المدن، والقرى، والوديان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عمد إلى تغيير أسماء “تامنغست” إلى “تامنراست”، و”إن صالح” إلى “عين صالح”، و”إن قزام” إلى “عين قزام”، و”إن أمناس” إلى “عين أمناس”، و”إن أدق” إلى “برج باجي مختار”، وغير ذلك. ناهيك عن تغيير ألقاب، وأسماء عائلات، وقبائل بأكملها، وتقزيم دور اللغة، والثقافة المحلية بمختلف تجلياتها، واستبدالها بثقافات وافدة، لهدف إيجاد قطيعة بين إنسان المنطقة وتاريخه، وحضارته، وثقافته العريقة.

ثم بعد ذلك اقتضت آليات النهج ذاته، سَنَّ قوانين، وتكريس سياسات تقوم على التمييز العنصري، وتكبل أيدي إنسان هذه المنطقة، وتضعه في المرتبة الثانية، إن لم تكن الثالثة، من المواطنة.. تضع عليه قيودا للحصول على وظيفة، لا يكاد يجتازها قبل سن التقاعد. وتمنعه من العمل الحر لصالح نفسه، وتفتح أمامه بابا واحدا للرزق.. وهو العمل مخبرا لصالح الأجهزة الأمنية التابعة لنظام العسكر.

وعلى هذا المنوال يتم تنشئة أجيال متتابعة بعقلية البوليس، الذي لا يعي سوى أن يكون حارسا لمصالح النظام الموهومة. وهكذا أصبح الشعب برمته يراقب بعضه بعضا على الدوام، فيما ظلت ولايات الجنوب الجزائري أشبه ما تكون بمحميات عسكرية لا يتحرك فيها المواطن بحرية، دخولا إليها، وخروجا منها، وتجوالا فيما بينها، إلا من خلال المرور بعشرات من النقاط والاستقافات العسكرية، التي تكون فيها عناصر الجيش من مناطق شمال البلاد، وتجدهم على الدوام في حالة استنفار قصوى، وفي تهيؤ مستمر، توجسا من مواطني هذه المنطقة، الذين زرع في مخيلة أبناء وطنهم من أفراد الجيش أنهم يشكلون خطرا أمنيا يجب أخذ الحيطة منهم!

هذا جزء مما حصل ويحصل بالجنوب داخل الحدود الجزائرية. أما وراء الخط الحدودي الجنوبي، فقد وجد نظام العسكر أعدل قضية سياسية، وإنسانية لأضعف شعب، وأكثر أمة أنهكها الإستعمار الفرنسي في المنطقة، فجعل منها هدفا ثابتا لعملياته البطولية، وينفذ عليها تمثيلياته في مدى القدرة على معالجة الأزمات السياسية الإقليمية، وتقديم الصنيع الجميل لسكان الغابات، بإخضاع الشعب الأزوادي المتمرد لهم [حسب وصفه]، تارة تحت دعوى احترام “الوحدة الترابية” لدول الجوار، وتارة بدعوى حماية “الأمن القومي” للجزائر. فعجل من الإقليم ساحة للعرض المسرحي، يخرج أحيانا أفلاما في تكوين، ومحاربة الجماعات المتطرفة الإرهابية، يُجرى معها معارك صورية، واعتقالات وهمية، وتوبة علنية لبعض عناصرها، وأحيانا يقوم بعمليات عسكرية – بمشاركة الأجهزة الأمنية المختلفة – في إحباط أنشطة إجرامية لتهريب السلع التموينية الجزائرية! كل هذه العمليات الدرامية الصورية، تضع على كاهل الخزينة العامة للدولة الجزائرية تكاليف باهظة، لو تم استخدام جزء منها في التنمية البشرية والمجالية، لأصبحت المنطقة جنة الشمال الإفريقي، وأضحت أكثر اخضرارا من جبال “الشريعة” في ولاية البليدة.

وفي تعاط جديد مع ملفات المنطقة (ما يمكن اعتباره خطوات خجولة نحو إقامة صلح مع الذات)، نلاحظ إطلاق مجموعة من الرسائل التطمينية على المستوى الداخلي، بدءا بإعلان مجموعة من الوظائف الشاغرة في أهم الشركات الوطنية الجزائرية، وعلى رأسها شركة سونطراك، وغيرها، وفتح الحدود مع الجارة ليبيا. وعلى مستوى الخارج، أجريت تواصلات مع بعض الشخصيات الأزوادية حول التأكيد على وجود نية حسنة للاستمرار في إدارة المفاوضات بين الأزواديين والحكومة المالية، بعد اشتعال الأزمة المستجدة، إدارة اتفقت الأطراف المعنية على أنها تتعمد دوما إضاعة الحقوق الأزوادية وتنتهج العمل على ترجيح الكفة المالية، والترويج لخطورة الأطماع الإنفصالية الأزوادية، وربطها علنا بالمؤامرات الصهيونية، والجهود التخريبية، وتشديد الوعيد على اتخاذ الإجراءات الفورية في معاقبة من تسول له نفسه الخروج عن وحدة التراب المالية والتسويق للأفكار التحررية.

إزاء كل هذه التصرفات النمطية تجاه الشعب، والقضية الأزوادية، هل يتوقع حكم العسكر في الدولة الجزائرية أن القيادة والشعب الأزوادي بهذا القدر من السذاجة وانعدام الدراية، والحنكة السياسية، حتى يظل يقدم كل مرة جحافل من الشهداء ليضع نتائج كل هذه الجهود في أيدي الإدارة العسكرية الجزائرية؟! كما حدث أثناء رعاية نظام العسكر لكل الاتفاقيات بين الحركات الأزوادية وحكومة الإحتلال المالي، ابتداءا بما يعرف باتفاقية تامنراست سنة 1992م، وانتهاءا باتفقية مسار الجزائر المبرمة سنة 2015م، والتي لم يطبق منها بند واحد طيلة ثماني سنوات كاملة، وظلت تراوح بين التأجيل، والتسويف حتى خرقتها الحكومة الإنقلابية في مالي، بهجوم على المعسكرات الأزوادية دون أن ينطق نظام العسكر في الجزائر [راعي الاتفاقية] ببنت شفه ضد مالي، بل أعقب ذلك ببيانات، وتصريحات من الرئيس نفسه، يحذر فيها من مجرد التفكير في تقسيم الأراضي المالية !!

وانطلاقا من إدراكنا لبعد الشعب الجزائري الأصيل، والأخ الشقيق، عن فهم القضية الأزوادية وملابساتها، بسبب التعتيم المفروض على الشعب الأزوادي، وقضيته العادلة، بفعل العوامل الطبيعية، والسياسية، وبجهود الآلة الإعلامية لنظام العسكر في الجزائر، ورأس الإحتلال المالي في باماكو، فإننا نجد من نافلة القول التوجه بدعوة صادقة إلى نظام العسكر في الجزائر أن اعملوا على إطلاق برنامج وطني، وإقليمي للمصالحة مع الذات، ومع الجيران الأقربين، والجيران الأقربون أولى بالمعروف، وكفى هدرا للطاقات فيما لا يجدي نفعا، نصيحة أزوادية أخوية قبل فوات الاوان ومجيء الطوفان.

أترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *