عبد الله الفرياضي
المغاربة ليسوا أصل البشرية فقط. المغاربة هم أساتذة العالم ومعلموه أيضًا. هذه هي الحقيقة التي أكدتها آخر اكتشافات علماء الأركيولوجيا. ذلك لأن علماء الآثار قالوا إن أسلافنا قد سبقوا بقية الشعوب إلى التمدُّن بفارق زمني لا يُحسب إلا بآلاف السنين. لم يقدر هؤلاء العلماء على التصريح بهذه الحقيقة إلا حين اكتشفوا بأن هذا الشعب الأسطوري هو من ابتكر، وأبدع في حرفة الخياطة وثقافة اللباس، ثم علمها بعد ذلك لبقية الشعوب. تؤكد التقارير العلمية بأن أقدم شاهد أثري في العالم على عراقة هذه المهنة قد تم اكتشافه في مغارة “المهربين” ضواحي مدينة الرباط. شاهدٌ يعود تاريخه إلى العصر الحجري الأوسط.
لا شك في أن العصر الحجري قد مرت عليه عشرات القرون، لذلك كان طبيعيا أن تجري تحت الجسر مياه كثيرة، وتتغير مع الزمن حقائق عديدة، لكن حقيقة واحدة لم تتغير.. تلك الحقيقة القائلة بأن المغاربة هم ملوك اللباس التقليدي، وهي الحقيقة ذاتها التي اكتشفتها اليوم بنغسي حين زرت مدينة إنزكَان، والتقيت بسيدة تدعى نوال المقدم.
على غير عادته، يبدو أن شهر رمضان قد بدأ هذه السنة يحزم حقائقبه سريعًا للرحيل. عيد الفطر إذن على الأبواب، ولا معنى للعيد من غير حلة جديدة من اللباس التقليدي. هذا ما كنت أفكر فيه طيلة الأيام الماضية، لذلك قررت اليوم أن أستبق الوقت قبل اقتراب العيد، فيكون الحصول على حلة تقليدية في عداد المُحال.
قرص الشمس الدافئ قد تزحزح قليلا عن كبد السماء في أكَادير. الجو الربيعي يغريني بمغادرة المنزل. تخففت قليلا من بعض الكسل الذي صار يلازمني، ثم يمَّمْت وجهي شطر مدينة إنزكان، ثاني أكبر منطقة تجارية في المغرب بعد الدار البيضاء، والوجهة الأولىةبجهة سوس التي توفر للمتبضعين عشرات العروض المتنوعة.
توجهت جنوبًا.. عشر كيلومترات فقط كانت كافية لتوصلني إلى وجهتي. وأنا أدخل المدينة من جهة الشمال، انعطفت يمينا حول المدارة الطرقية المحادية لمبنى العمالة. تقدمت قليلا إلى الأمام، فإذا المركز التجاري الكبير “صحراء مول Sahara Mall” يستقبلني بإغراء رأسمالي فادح الغنج. تأملت واجهته العصرية قليلا. تملكتني رغبة عارمة في أن أتجول فيه قليلا، لولا أنني تذكرت بأن وجهتي هي سوق الملابس التقليدية، فأشحت عنه بصري، ثم هممت بمواصلة المسير.
خطوة، فخطوتان، فثلاثًا، ثم توقفت.. شيء ما يشدني إلى المكان شدا، ويأبى أن يدعني أكمل الطريق. عدت أدراجي قليلا نحو المركز، ودلفت إليه من أحد مداخله المبثوثة في كل جنباته. كل شيء يباع هنا.. حينها تذكرت أن أهل سوس يقولون إن كل ما لا يباع حرام.. تلك هي عقيدتهم الخالدة في التجارة. طوابق متراكبة، متاجر متراصة، وبضائع مصفوفة. صعدت السلالم الكهربائية وهبطت. ذرعت الأروقة والممرات طولا وعرضا. كانت الأمكنة كلها متشابهة في نظري، إلا مكانا واحدا هو الذي استوقفني، فتسمرت أمامه طويلا. لم يكن ذلك المكان غير متجر “Allure tradition”..
كالمأخوذ بالكلية عن الواقع، لبثت ردحًا من الزمن أحملق بعينين جاحظتين، وفاه فاغر في تشكيلات مختلفة من الملابس التقليدية المعروضة في الواجهة الزجاجية للمتجر. أسراب من المتبضعين يدخلون ويخرجون، فيما كنت أنا قد قطعت كل العلائق عن آخر الخلائق، وامتطيت صهوة خيال جامحٍ حلق بي عاليا نحو العوالم المخملية لأسلاف هذه الأمة الأسطورية.
في لحظة فارقة، وبينما أنا أقترف ترحالي الذهني بين العصور، متنقلا من بيت إلى بيت من البيوتات الأرستقراطية للمغاربة الأقدمين، أعادني صوت أنثوي رقيق إلى سابق الحضور “مرحبا سيدي..”. استفقت من شروذي، وأجبت بابتسامة خجولة.. إنها نوال المقدم، مالكة المتجر، وصاحبة الأنامل السحرية التي أبدعت كل التحف المعروضة فيه للبيع. فسحت لي الطريق بحركة بورجوازية من يدهيا. دخلت أولا، ثم اقتفت هي أثري تاليا.
داخل المتجر وجدت مغربين اثنين، لا مغربًا واحدًا فحسب. مغرب ضارب بأطنابه في العراقة التليدة، ومغرب يعض بالنواجذ على الحداثة المعاصرة. الغريب أنهما لم يكونا منفصلين، بل كانا كالعملة الواحدة بوجهين. واقفا كفزاعة متخشبة وسط المتجر، كانت عيناي تلتهمان تفاصيل الألبسة المعروضة بنهم شديد. هنا القفطان، وهناك التكشيطة، وبينهما السلهام..
الإبداع ملَكة ربانية، لكن الله لا يمنح أسراره لأي كان.. الرب يجود بأسراره المكنونة فقط لمن يرعى الموهبة بالصقل. وكذلك كان الحال مع نوال المقدم.. من حواري الجانبي معها علمت أنها امتهنت هذه الحرفة لأزيد من عقدين من الزمن. قالت لي: حينها كتت متخصصة في الزي الرجالي، ثم تحولت بعد ذلك إلى الزي النسائي.
كل حلة من الحلل المعروضة هنا تنسيك في جمال الحلة الأخرى.. حين تفحصت تفاصيل قفطان جميل، خيل إلي أن مصممته كانت تشتغل عليه وكأنها تقرض قصيدة شعر، أو تنسج خيوط حبكة سردية. لكن حين انتبهت إلى احتفائها البالغ بالألوان، تخيلت الأمر أشبه ما يكون بلوحة تشكيلية.
فلا كلمة يمكنها أن تصف ما أراه غير كلمة “الإبداع”. كل المعروضات التي أراها أمام ناظري تتأرجح بين بساطة التصاميم، وبين زخرفة طاعنة في البذخ. في لحظة دهشة سألت مالكة المتجر عما إذا كانت تنجز هذه التحف بموهبتها فقط، فأجابت بأن الموهبة وحدها لا تكفي.. الموهبة تحتاج إلى من يصقلها، والصقل يكون بالدربة والمراس، وبكن أيضا بوصل الليل بالنهار بحثا وتنقيبا في تاريخ الألبسة التقليدية المغربية. استلت من أحد الأدراج قفطانًا بليغًا، وقالت “القفطان مثلا يعود إلى عهد الخلفاء الموحدين، والطائفة اليهودية ساهت بشكل كبير في تطويره”. حينها انتبهت إلى أن القدر قد كتب على المغاربة أن يتوارثوا الأسرار المخبوءة لمهنة الخياطة جيلا بعد جيل، حتى صار الزي التقليدي المغربي يتربع اليوم على عرش الأزياء العالمية.
هل تشتغلين وحدك؟ هكذا سألتها كالغبي. لكنها كانت متسامحة كثيرًا مع غبائي، فأجابت: إنتاج قطعة واحدة ابتبدءا بابتكار التصميم،، وصولا إلى تزيينه، يقتضي المرور بعدة مراحل يقتضي إنجازها العمل مع قرابة عشرين صانعًا تقليديا، منهم صناع العقيق، والظفيرة، والعقد. أمسكت عن الكلام برهة ثم استرسلت: لكنني أحرص على الإشراف على تنفيذ كل هذه المراحل بشكل شخصي حتى أطمئن إلى أن الزبناء سيرتدون حللا متفردة، ومصنوعة بحب”.
نسيت نفسي أنني في متجر للبيع وليس في قاعة درس، كنت متعطشا للاستزادة من المعلومات عن تلك التحف الفنية، لكن أسراب المتبضعين لم تترك لي الوقت لأفعل. اعتذرت مني السيدة نوال، قائلة “المحل محلك، أنظر أي اللباس أعجبك”، ثم استدارت نحو بقية الزبائن، تجيب إحداهن عن ثمن قفطان، وتنصح أخرى بلون الجلباب الذي يلائم بشرة وجهها.. ثم عادت إلي بعد دقائق لتسأل عما إذا كانت إحدى القطع قد أعجبتني. الواقع أنني كنت مأخوذًا بكل الألبسة المعروضة. تمنيت لو أفرغت المتجر عن آخره، لكنني تذكرت أنني أتيت لأقتني حلة رجالية، فضحكت ملء شدقي. سألتني مالكة المتجر عن سبب الضحكة، فأخبرتها بالذي حصل. أطرقت قليلا، ثم ابتسمت بدورها وقالت: “صحيح أن الملابس الرجالية غير معروضة هنا، لكن يمكنك أن تطلب مسبقا ما تريد”. أخبرتها أنني أرغب في قفطان رجالي. أخذت مقاساتي، وضربت لي قبل العيد موعدًا لاستلام الطلب.