جلال عطار، شاب في الـ26 من العمر، لكنه أخطر صيد تتمكن منه السلطات المغربية في حربها على الإرهاب. لقد كان رفيق عبد الحميد أبا عوض، مخطط هجمات باريس في نونبر الفائت، وأيضا شكيب أكروح، أحد الإرهابيين القتلى في تلك الهجمات. لقد نجح عطار في إخفاء نفسه في المغرب بعد عودته من معاقل «داعش». كيف فعلها؟ بعض عناصر الجواب في هذا التحقيق
في ركن شارع الحرية بمدينة المحمدية، كان جلال عطار يعيش في الطابق الأول لمنزل والده على بعد 80 مترا من مركز الشرطة بدرب الشباب. لقد قضى هناك عامين دون أن يثير من حوله الشكوك. « قدم فجأة قبل ثلاث سنوات تقريبا، وقرر أن يمكث في تلك الشقة»، يقول عمه، وهو رجل طاعن في السن، يملك محل بقالة أسفل المنزل. «لم أسأله عن شيء، بسبب فارق العمر بيني وبينه، وهو لم يهتم يوما بأن يخبرني بما يحدث». لدى عطار عم آخر عدا هذا، وكان يسكن فوقه في الطابق الثاني، لكنه أبكم، «وبالتالي لم تكن بينهما أي محادثات لأن ذلك كان مستحيلا». ويبقى هذا العم (الذي فضل حجب اسمه) فرد العائلة الوحيد لعطار في البلاد من يستطيع أن يساعدنا على إعادة تشكيل حياته في المحمدية.
عيش في صمت
عاش عطار في شقته بعد هروبه من أوروبا بسبب ملاحقته من لدن السلطات البلجيكية (فقد أدين غيابيا بخمس سنوات سجنا بسبب تهم تتعلق بتكوين شبكة إرهابية)، وبالكاد كان يهتم لأمره أحد. كمال، وهو أحد شباب الزقاق حيث كان يسكن عطار، لم يكن يملك معرفة دقيقة عن جاره: «كان يتسم بالهدوء. لم أره يوما في حالة غير طبيعية. كان شخصا منزويا عن الآخرين، وبالكاد تراه بمعية شخص من شبان هذا الحي. ربما كانت تلك هي طريقته في التخفي». وعلى كل حال، كان عطار يملك بعض الأصدقاء، وقد سافر بمعيتهم إلى شمال المغرب في صيف عام 2014، لكنهم على ما يبدو هم أشخاص بعيدون عن الحي حيث يسكن، وكان القاسم المشترك بينهم هو شغفه بكرة القدم. «لقد صنع لنفسه شخصية جديدة. هل هو عطار الذي قدموه لنا في التلفزيون كرجل خطير؟ لو كنت في مكاني ولاحظت كيف يتصرف، فإنك ستصاب بالصدمة إذا أخبروك بأن ذلك الرجل إرهابي عالي المستوى»، كما يقول صاحب مقشدة «لاتوليب» المجاورة لمسكن عطار.
بحسب حكاية صاحب المقشدة، فإن عطار لم يكن يتردد كثيرا على محله، «لكنه كان كل مرة يأتي عندي، يطلب كأس عصير، ويخرج إلى الباحة ثم يشربه بسرعة، ويعود ويؤدي ثمنه وينصرف.. كان قليل الكلام؛ يطلب ما يرغب به بدارجة متكسرة، ثم يشرع في النظر في الأرجاء. ناذرا ما كان يركز نظره علي، ربما كان يخاف من أن يتعرف عليه أحد.. كيف سنفعل ذلك، ونحن لا نعرف عنه شيئا».
ويظهر أن طريقة عطار في التصرف في تلك الأرجاء من حيه كانت روتينية، لأن جميع من تحدثنا إليهم يكشفون حجم الفجوة التي كانت بينه وبين الآخرين. «لم يكن يرغب في التعرف على أحد، ولم يكن ليقوم بفعل يترتب عنه أن تبدأ محادثة بينك وبينه.. كان يسلم عليك من بعيد، ثم يبتعد عنك. وبالنظر إلى ما حصل، أعتقد أنه ما كان يرغب في ترك ديون في المقشدة، كي لا يكون بابا لفتح محادثات معه حول أي شيء. كنا نعتقد أن لديه أصدقاءه الذين يستطيع أن ينسج معهم علاقات طبيعية، بينما نحن مجرد أشخاص مفروضين عليه بحكم الجوار».
ولكن، هل كان جلال عطار فعلا غير مثير للشكوك؟ بالنسبة إلى عمه، فإن ذاكرته تسترجع بعض التفاصيل المرتبطة بصورة ابن أخيه كما هي في حقيقة الأمر: «لم أكن أتوقع أن يكون ابن أخي إرهابيا، أو أن يكون عضوا في تنظيم «داعش».. لكني فهمت الآن أنه كان مثيرا للريبة، لأن الشرطة قدمت عندي في بعض المرات، وسألتني بخصوصه، وأنا لم أفهم وقتها لماذا يسألون عنه، غير أني مقتنع بأنهم كانوا يلاحقونه منذ تلك الفترة». لم يحدد العم في أي فترة بالضبط كانت الشرطة تسأله عن ابن أخيه، لكنه على يقين من أن جلال عطار نجح في تمويه الجميع تقريبا. «كان بودي أن ألحظ ما إن كان سلوكه مشتبها فيه، وحتى اليوم، عندما أراجع ذكرياتي، فإني لا أجد شيئا يدفعني إلى الشك فيه. لقد كان شابا يافعا عائدا من المهجر، واعتقدت أنه قرر أن يكتفي من الاغتراب ويعود إلى بلاده.. هنا لديه أمور كثيرة ليفعلها، فقد ترك له والده ثروة صغيرة يمكنها أن توفر له شروط حياة أفضل مما كان عليه وضعه في بلجيكا».
دلائل الشكوك
وبالنسبة إلى شاب قادم من بلجيكا، فإن بعض التفاصيل مهمة للاشتباه في سلوكه، وكما يؤكد كمال، فإن «جلال كان شابا صالحا بالمعنى المتعارف عليه. لم يكن يدخن، فلم أره يوما يحمل سيجارة، ولم يكن يشرب الخمر أيضا. وقد كان مواظبا على الصلاة. كان رجلا حسن الخلق. ربما في محاولته لإنكار تاريخه المتطرف، نجح في إخفاء كل المعالم، إلا هذه الشروط، لقد بقي متمسكا بدينه».
وبالنسبة إلى شاب في السادسة والعشرين من عمره، ويسكن وحيدا، فإنه من الغريب ألا تكون لديه صديقة: «لم أره يوما بمعية فتاة. كان ذلك غريبا، لكن بالنسبة إلينا، كنا نعتقد أن صديقته المفترضة في مكان آخر بعيد عن أعيننا، ولم يسأله أحد عن ذلك، ونادرا ما حاول أحدنا الاقتراب منه. في بعض المرات، أفكر فيه وكأنه كان مصابا بأزمة نفسية، ونحن لم نكن لنتحول إلى مصدر إزعاج له».
لكنه كان بشكل مؤكد يحاول أن يعيش حياة عادية، لأنها كانت وسيلته المنطقية لإبعاد الشكوك عنه. «كان يأتي في بعض المرات وهو يقود سيارة. لم يكن يملك واحدة، وإنما كان يكتريها، وبالنسبة إلى شخص لا يعمل، ويعتمد على ما ترسله له والدته من بلجيكا، فقد كان غريبا أن ينفقها في كراء سيارات.. بحسب ما فهمت فيما بعد، فقد كان يفعل ذلك عندما يخطط لقضاء عطلة بعيدا عن مدينة المحمدية»، كما يقول عمه. يفرض كراء السيارات وجود حساب بنكي لدى جلال ليضعه ضمانة عند وكالة كراء السيارات، ويزعم عمه أن «جلال ربما نجح في استصدار بطاقة هوية جديدة بعد مكوثه في المحمدية لثلاث سنوات، وربما فتح حسابا بنكيا، لكني غير متأكد من هذه المعلومات». وفي الواقع، فإن السلطات المحلية نأت بنفسها عن الجواب عن هذه الفرضية، ولم تقدم لـ»أخبار اليوم» أي معلومات عما إذا كان جلال عطار قد حصل على بطاقة هوية جديدة.
وتطرح قضية تمويل جلال عطار لمصاريفه اليومية شكوكا حول من كان يتكفل بالإنفاق عليه. وبينما يتمسك عمه بالقول «إن ما يعرفه هو أن أمه هي من كانت ترسل له الأموال من بلجيكا»، فإن وقائع أخرى تكشف أن جلال كان في حاجة إلى المال هذا العام، وكما يقول صاحب مقشدة «لاتوليب»: «في بداية الأمر، كنا نفترض أن لديه أموالا حصل عليها في بلجيكا، وينفقها على نفسه. وبعد أن استمر في العيش بدون عمل هنا لسنتين، كانت الفرضية أن والدته ترسل إليه الأموال، لكن على ما يبدو، فإن تلك الأموال أصبحت قليلة بعد مرور الوقت، ولذلك لجأ إلى كراء غرفة تخزين في الطابق السفلي للمنزل حيث كان يسكن لصالح صاحب معدات صوتية، وكان بحسب ما علمت، يكريها لهم بألف درهم في الشهر». ظل صاحب المعدات الصوتية يضع وسائل عمله في تلك الغرفة لشهور، ولم ينقلها من هناك سوى في اليوم الموالي لتوقيف جلال: «لقد أتى وحمل معداته وانصرف.. وفي ضوء ما يحدث، فإن المرء سيصاب بالهلع عندما يفكر في أنه كان يكتري غرفة من عند إرهابي، أو أن أمواله استعملت لأهداف خطيرة»، كما يقول صاحب المقشدة.
اقتفى أثر المال!
كانت مصاريف جلال عطار كبيرة، فهو كان ينفق على نفسه ببذخ، فقد كان يشتري ألبسة غالية الثمن، ويتناول طعامه في مطاعم تقدم وجبات باهظة السعر. هل كانت تكفيه الوجيبة الكرائية أو ما كانت ترسله له والدته؟ لا يعرف أقرباؤه شيئا عن ذلك، وحتى شقيقته الوحيدة الموجودة في بلجيكا لم تكن ترسل له أموالا، لأنها لا تملك ببساطة أي شيء. لكن ما كان يعتقده جيرانه هو أن جلال «يدير ثروة والده الذي توفي في إيطاليا قبل خمس سنوات ودفن هناك، وهي عبارة عن أكرية منازل عديدة يملكها في المحمدية»، بحسب كمال، لكن عمه يقول إن جلال ما كان له أن يتصرف في تركة والده: «لم نقسم الإرث بعد، فأنا وريث في ما تركه والده، لأن المنازل كانت مشتركة بيننا، أنا ووالده وشقيقنا الأبكم، وهو لم يكن ليستطيع أن يطلب من مكتري أي شيء، ولذلك كان الحل بالنسبة إليه هو أن يكري غرفة في شقته، وتغاضيت عن الأمر».
والغريب أن جلال عطار لم يطلب يوما من عمه الشروع في الإجراءات المتعلقة بتقسيم التركة: «لم يكن مهتما على ما يبدو، وهو بالكاد كان يكلمني، فبالأحرى أن يطلب مني شيئا مثل هذا. لقد قضى ثلاث سنوات هنا، لكني لم أكن أراه سوى مرة أو مرتين في الشهر. كان يمر بجانب محل البقالة الذي أديره، ويسلم علي من بعيد، ثم يبتعد عني. ووالدته لم أرها بدورها منذ ثلاث سنوات. لقد أتت إلى هنا قبل أن يحل جلال بالمنزل، ولم ترجع مرة أخرى». هل كانت والدته تعلم بملاحقة ابنها من لدن السلطات البلجيكية أو بأعماله في «داعش»؟ لا يجيب العم عن ذلك، لكنه متيقن من أن ابن أخيه خدع الجميع، «لكنه لم يخدع الشرطة المغربية في نهاية المطاف». وفي حقيقة الأمر، فإن من يعرفونه يشعرون بأنهم قد تعرضوا لعملية خداع، لكنها بدون أضرار. «كنت أقف هنا وسط صناديق الخضر، عندما وقف علي في ذلك اليوم (الجمعة 15 يناير) ثلاثة أو أربعة رجال أصحاء، سلموا علي، ثم وقفوا قليلا هناك، وبعد لحظات، انصرفوا. لم أفهم ما يقع حتى أتى إلي بعض الشباب مباشرة بعد انصراف أولئك الرجال ليخبروني بأن ابن أخي قد أخذته الشرطة. لقد كانوا يحرسون مداخل البناية على ما يبدو». لم يعرف العم بأن جلال مطلوب في قضية إرهاب، ولم يكن يعرف أن أقرب رفاقه قبل ثلاث سنوات هما عبد الحميد أباعوض وشكيب أكروح، الرجلان الذين خططا لهجمات باريس قبل أن يُقتلا فيما بعد، تاركين وراءهما نحو 200 قتيل. «كانت صدمة رهيبة»، يقول العم.