محلل نفساني: لهذه الأسباب يقسم المغاربة بالله ألف مرة في الساعة

moroccanpeople_381076705

كملاحظ ومحلل مغربي أندهش دائما من شدة تكرار “القسم بالله” عند المغاربة في حواراتهم الخاصة والعامة ومناقشاتهم ونزاعاتهم مع بعضهم البعض في أي موضوع كان حتى، ولو كان من أتفه الصغائر. فحينما يقص المغربي حادثة لابد له وأن ينهي حديثه بالقسم المعروف “والله العظيم ما كنكذب عليكم”. وإذا سألنا المغربي هل رأى شخصاً ما؟ فيكون رده هو: “والله ما شفتو”. وإذا طلبت من تاجر مغربي تخفيض السعر سوف يرد عليك قائلاً: “راه هي كنسلكو والله مفيها شي ربح”. باختصار في كل الحالات والأوقات يقسم المغربي بالله بأنه لا يكذب ويقول الحق ويرى في ذلك دليلاً على صدقه.

وحينما يتعلق الأمر بالمنازعات العائلية، نسمع عبارات مثل “علاش قلتي فيا هاد الكلام أو علاش هدرتي فلوالدة ديالي لأمك….” وهنا القسم الاعتيادي بالله يصبح غير كاف ويطلب منها أو منه بأن يقسم بالقرآن الكريم، ومهما أقسم فلن يصدق بقسمه وتسمع الضحية تردد “كذاب واخا حلف بالقرآن”. وطبعاً لحسن الحظ فإن الأغلبية تتجنب القسم على القرآن في هذه النزاعات من خلال استعمال هذه العبارة الدارجة “أنا حلفت بالله وما عندي علاش نحلف بالقرآن مبغيتوش تيقو ما تيقوش”.

إنني ألاحظ ظاهرة عجيبة أخرى وهي أن المغربي حينما يُقسم بالله بشدة ويرى أنه لم يُصدق بعد، فإنه يرفع مستوى سلم القسم درجة أعلى قائلا: “الله يرزني فولادي إلا كنكذب عليك”. تخيلوا معي ما هو شعور الطفل، أو الطفلة، حينما يسمع هذا القسم من الأب أو الأم وهو قسم يتضمن تهديداً بموته! خاصة وأن الطفل بذكائه الفطري سبق وأن لاحظ أن والديه قد سبق وأن كذبا في مناسبات عدة، فكيف سيكون شعور هذا الطفل ورعبه من الموت وبأن أعز الناس إليه يضحون بحياته من أجل تبرير أكاذيبهم؟

والغريب في الأمر أن المغربي يتطوع مسبقاً بالقسم غالبا لينفي عن نفسه الكذب بعبارة “والله ما كنكذب عليك” في حين لا أحد قد قام بتكذيبه أو التشكيك في صدقه، وهكذا يتصرف كأن له علماً مسبقا بأن الكل يكذب على الكل ولا ثقة في أحد.

لماذا إذن يلجأ المغربي إلى القسم بالله على أتفه أو أعظم الأشياء، من الصباح الى المساء، وكأن القسم بالله أصبح أشبه بـ “سكاتة” رضيع لا تفارق فمه؟ حتى حينما يروي حادثة وقعت له لابد أن يختمها بعبارة “والله ما كنكذب عليكم هادشي لوقعلي والله”، وفي الآن نفسه، فإن المستمع إليه يرد بعبارة: “قول والله؟”. حقاً كم هو حوار غريب عجيب، فما المناسبة التي استدعت القسم بالله هنا وكأن القسم المجاني صار فريضة في كل صغيرة وكبيرة من حواراتنا؟

هذه المعادلة ليست صعبة للحل ولا تتطلب محللا ماهراً حتى نلاحظ أن المغربي يرى أن لا أحد يصدقه، وفي الوقت نفسه يتصور في نفسه أن بقية المغاربة على وجه العموم كذابون، وهذا ما يبرر اللجوء الدائم إلى القسم بالله. لكن مع الأسف حتى القسم بالله أو بعبارة “الله يرزني في ولادي” لم يعد كافيا للتصديق، والأخطر من هذا حتى القسم على القرآن لم يعد كافيا لليقين في صدق الحالف. وهذه الظاهرة خطيرة في مجتمعنا وتنبهنا إلى أننا في مجتمع فقد أفراده الثقة في بعضهم البعض، وبالتالي هو مجتمع فاقد للثقة في كيانه، فكيف لنا أن نتعاون جميعا لخدمة بلدنا إذا كان كل فرد لا يثق في الآخرين من شركائه في الوطن؟

وعلى سبيل المثال، في ثقافة الدول الغربية يكاد القسم أن يكون غائباً تماماً عن العلاقات الاجتماعية، ويعتبر شيء مقدساً لا مجال للعبث به، ولا يلجؤون إليه إلا في المحاكم عندما يدلي شاهد بشهادته في قضية ما أو أثناء قسم اليمين الدستوري.

وأطرح السؤال بشكل آخر، لماذا لا ينزع المغربي من فمه العادة العبثية في استعمال “القسم بالله”، ويحاور بطلاقة منقطعا عن رأي الآخرين، سواءً كان مصدقاً به أو لا؟ ولماذا الحاجة إلى القسم بالله في أمور تتعلق بمناقشات أو مشاحنات عائلية أو مع الجيران أو زملاء العمل؟

وكمحلل نفساني أرى أن سبب المبالغة في اللجوء إلى القسم بالله يرجع أساساً إلى انعدام الثقة لدى الفرد في نفسه وفي مجتمعه، خاصة أن العلاقات الإنسانية أصبحت غير نزيهة وأن المغربي في هذه الظروف صار ماهراً في ارتداء الآلاف من الأقنعة ولا يظهر أبدا بوجهه مكشوفا على حقيقته لكي يتحمل مسؤولية كلامه، سواء صدقه الآخرون أو كذبوه أو دون اعتبار لمسألة تقديرهم له.

وإشكالية المغربي في اللجوء إلى القسم بالله كلما فتح فمه في مواقفه الحياتية اليومية يمكن تقسيمها إلى قسمين:

1- الخوف من فقدان اعتباره واستبعاده من محيطه وتشويه صورته الاجتماعية:

وهذا يدل على أن المغربي يرى صورته سلبية ولا قيمة لها في نفسه، ما يجعله فاقداً للثقة وتحت سطوة نقص النضج العاطفي. فيسعى إلى التعويض بكل جهده من خلال صنع صورة اجتماعية يرغب فيها الجميع ولو بالكذب والخداع، بل وحينما يعجز عن هدفه يلجأ إلى ارتداء الأقنعة والتخفي من ورائها. والغريب في الأمر أنه لما يثبت عليه الكذب بالحجة القاطعة والدليل الدامغ، لا يتحمل مسؤوليته ويرميها على الغير أو يقول مثل هذه العبارة الدارجة: “إوا كتابت علي، أو هذا ما قدر الله علي، أو الشيطان ولد الحرام لعب بيا، أو ضربتني العين، أو سحرو لي، والله ما عرفت كيفاش حتى قلت هاد الكلام، تعميت وصافي، الله يحفظ”.

وإنه لأمر محزن ومُبكي ولا يبعث على الضحك لأن الكاذب الذي ثبتت عليه الحُجة يحول نفسه إلى الضحية المسكين بدون تحمل أي مسؤولية عن أقواله وأفعاله! وللأسف، فإن المغربي لم ينل في طفولته الحنان والحب الكافي، وهما من مركبات الثقة في النفس، ولهذا يبحث بدون انقطاع عن هذا الحرمان عند الآخرين ويقسم بالله ليكسب ثقتهم وأنه ضحية في أي نزاع كان. المغربي بعيد كل البعد عن تحمل المسؤولية الشخصية ولا يتقبل أبدا أن نحكم عليه بالخطأ لأنه يعتبره اعتداء على شخصه وكينونته.

2-غياب الصدق في تربية الأطفال:

إنها لكارثة اجتماعية عظمى ومصيبة كبرى. لاحظوا جيداً معي أننا لا نعلم الطفل الصدق ولكن نعلمه مثل هذه العبارات “ما خاصكش تكذب علي”، وكأن الطفل الصغير يمكنه الكذب على أحد آخر. لكن في أغلب الأساليب نجد تكرار تحذيره من الكذب ومصيره جهنم إذا كذب ولا نأخذ الوقت الكافي لنرسخ في ذهنه فضيلة الصدق كما أوصانا بها الله تعالى.

إن للكلمات أبعاداً وثقلاً كبيرين في العلاقات التربوية والحياتية. وكثيراً ما نكرر بشدة وحزم للطفل أن الكذب حرام، متوهمين أننا نربيه على الصدق بينما نحن في الواقع ما نرسخه في ذهنه هو “الكذب”، وكلما جهد في ألاّ يكذب ينسى الصدق وينتهي به الأمر بغير وعي بالكذب.

كل الأساليب السلبية في الحوار خطيرة لأنها تترسخ في الذهن ولا يحدث عكسها، وهناك تجربة شهيرة في علم النفس يمكننا جميعاً ان نتشارك في تطبيقها: أطلب منكم مثلاً ألاّ تتصوروا في ذهنكم دباً أبيض، غير أنكم جميعاً لا شعورياً ستجدونه في تصوركم، وهذا يعني أن عكس ما طلبته منكم هو الذي وقع وجرى بالفعل؛ أي إن النهي عن الشيء أدى إلى عكس النتيجة المرجوة. أما إذا اعتاد الآباء على تكرار هذه الجملة مثلاً “تحدث دائما بصدق لأن الصدق فضيلة إلهية وأساس جميع الفضائل النبيلة لأنها تقوي العلاقات الإنسانية وتنتج الثقة والأمان”، فكلمة الصدق سوف تترسخ في العقل الباطني لأبنائهم، فيصبح سلوكاً قابلاً للإنتاج في حياتهم بشكل طبيعي وبدون أي مجهود.

لكننا نجد مع الأسف ظاهرة أخرى في التربية المغربية الحالية؛ حيث نركز كثيراً على عواقب الكذب ونكثر الكلام حول مصير الكذاب وعقابه في نار جهنم، ولا نعطي الاهتمام الكافي للحديث عن الصدق كأساس للفضائل ولا كمنهاج لراحة الضمير والشعور بالسعادة الروحانية وأداة فعالة لتمتين الثقة في كل العلاقات الاجتماعية.

وفي ثقافتنا الشعبية نرى عكس هذا تماماً، ونعتبر الكل يلجأ إلى الكذب وننبه الطفل إلى أن يكون حذراً من الناس وألاّ يضع ثقته فيهم. لكن الطفل ليس غبياً ويلاحظ أن لا أحد يصدقه ويحذر من الكل حتى أبويه وعائلته ويعتبر الكل غير صادق. والدليل على ذلك أن الآباء أو الأمهات، في كثير من الأحيان، يعدون أبناءهم بشيء ما ويقسمون بالله على التزامهم بالوعود، ثم يخلفون الوعد، ويعيدون القسم مرة أخرى باستدلالات لا يصدقها الطفل طبعاً، وهكذا يرى الطفل أباه، أو أمه، الذي يفترض أن يكون أقرب الناس إليه وعلى رأس أهل الثقة قد أصبح كذاباً هو الآخر.

ولا ننسى كذلك أن الطفل يعتبر من أعظم الملاحظين، وبشكل دقيق يرسخ في ذهنه كل ما يراه ويلاحظه في محيطه، فهو يرى بعينيه ويسمع بأذنيه والداه وهما يقسمان بالله كذباً. ولا داعي هنا أن أذكر الأمثلة الواضحة التي نعرفها جميعاً. فعوض أن يتعلم الطفل بالمثال والقدوة من محيطه الصدق، يتعلم مع الأسف الكذب والقسم العشوائي بالله منذ صغره، وهذا ما يؤلم النفس لما نرى طفلا صغيراً يبرر أقواله بالقسم، شيء فضيع هذا الأمر، وتبدو له العملية سهلة؛ بمعنى أنه يكذب كيف شاء وما عليه إلا أن يقسم بالله ليحول بطريقة سحرية الكذب إلى صدق! وهذه هي حالة الانفصام أو سكيزوفرنيا «schizophrénie» نعيشها في مجتمعنا المغربي.

وفي كلتا الحالتين، يرجع سبب ظاهرة القسم بالله إلى الحالة النمطية المؤسفة للتربية المغربية. فهل نترك المصنع الاجتماعي يستمر في إنتاج مجتمع يسوده الكذب وانعدام الثقة؟ وكيف لنا أن نبني مجتمعا صادقاً ونزيهاً إذا لم نغير ونصحح أساليب التربية السيئة التي تنتج شخصيات ضعيفة متعددة الوجوه والأقنعة؟ أتظنون أن الله تعالى يرضى استعمال اسمه حجة لتبرير أكاذيبنا اليومية؟ أين هي الصعوبة في تعليم الصدق للطفل باعتماد قوة العملة الروحانية التربوية في الوسط العائلي؟ أين هي الصعوبة في حب الطفل وإغراقه بـكامل الحنان والعطف ليتمكن من الثقة في نفسه ويكون صادقاً وصريحاً ليس له منهاج سوى منهاج الصدق؟ وهل من المستحيل أن نزرع في الطفل قيم الصدق ونمكنه من بناء شخصية مستقلة بحيث يقول الصدق دون الحاجة إلى القسم أو أن يقيد نفسه برأي أو تقييم الأخرين له سواء صدقوه أو لم يصدقوه؟ أين هو الضرر في احترام الصدق كعملة روحانية وحضارية وكقيمة تربوية وفضيلة أخلاقية؟ وإلى متى سيبقى الصدق غائباً عن حياتنا؟

أترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *