عمر أوزكان
لقد نال المدرس على مر العصور منزلة مرموقة لدى المجتمعات الراقية، وحظي بمكانة مشرفة لدى مختلف شرائح المجتمع. كما تمتع بالتقدير، والسمعة الطيبة، وبشخصية مهيبة، وسلطة كبيرة بين الناس. فكانوا أشد حرصا على احترامه، وإجلال دوره، لما يقدمه من خدمات إنسانية جليلة، ولما يتقلده من مسؤولية جسيمة، كونه صاحب أمانة ورسالة سامية.
وحرصت المجتمعات المتقدمة دوما على احترام المدرس، وإجلال دوره، وتعظيم عمله، لعلمها، وفهمها العميق لدوره المحوري، ومساهمته في بناء الإنسان، وصناعة الأجيال، وبناء العقول، وتربية النشء، حتى يصير عارفا بشؤون حياته، ومتمثلا للقيم الأخلاقية النبيلة، ومتأقلما مع مختلف الأوضاع، والمواقف، والتحديات الحياتية. وهذا لا يتأتى إلا بتمتيعه بهذه القيمة الرمزية العالية.
وفي المقابل، تمر المدرسة العمومية المغربية بأزمة كبيرة، ناتجة عن تراكمات فشل السياسات العمومية، وما تمخض عنها من برامج. وساهمت في ذلك سطحية التجاذبات السياسية، وضعف مساهمتها، وغياب تأثيرها، في سيرورة التحولات التي عرفها المغرب، منذ فجر الاستقلال، مرورا بعشرية الإصلاح، التي بصمها تولي المستشار الملكي الراحل مزيان بلفقيه زمام ملف تصليح إصلاح التعليم. وكانت له الشجاعة الكافية في إعلان فشل السياسات التعليمية، حين صرح: “لم ننجح حتى الآن بالشكل المطلوب، بل أخلفنا الموعد“، وهو الحكم الذي أزعج المسؤولين على قطاع التعليم، ولم يستسيغوا أن يوجه ضدهم ممن أنجز الميثاق الذي يسيرون على هديه.
وقد نتج عن تراكم فشل السياسات العمومية، غليان قطاع التعليم، وإذكاءه للكثير من التوترات بالمشهد العام بالمغرب، امتطته في الغالب الأحزاب السياسية، والنقابات الحزبية، وغير الحزبية… وجعلته صهوة لدحر الآخر، في كل المعارك الإيديولوجية، والسجالات السياسية. واستلهمت الكثير من المفاهيم الموظفة من سياق نشأة التعليم المغربي الحديث، منذ بدأت المدارس الحرة بالظهور – بعد1919 -، مرورا بمحطة المناداة بضرورة التوجه نحو إرساء التدريس متعدد التخصصات، والتدريس متعدد المستويات والأسلاك…وما تبعها من محطات.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين تمخض النقاش العمومي بين التيارين: الإسلامي، والعلماني، بالمناداة بتعليم يكون قنطرة المغرب نحو المستقبل. تعليم حداثي تنال فيه حصص العلوم الحقة، واللغات الحية حصة الأسد، بما يضمن مستقبلا زاهرا للأجيال الصاعدة، ويحقق التنمية في البلاد… وهكذا ظلت النخب المتصارعة، من علمانيين، وإسلاميين، وحداثيين تسوق خطاباتها لتجذب العامة، لكنها كانت في الكثير من الأحيان خطابات تتسم بالسطحية، مما أفضى إلى استهلاك الكثير من الجهد، دون أن تثمر هذه الصدامات الأيديولوجية أية حلول.
وفي خضم هذه الأحداث، والتحولات العسيرة، عاش المدرس بالمغرب، كباقي دول العالم الثالث، في وضع حرج، ينظر إليه نظرة دونية، وينزل مقاما غير معتبر، ولا يليق به، على اعتبار ما له من فضل، ومكانة، ورمزية. كما تبخرت الصورة المشرفة التي كانت له في الماضي التليد، رغم بساطته، وقلة موارده. وحلت محلها صورة قاتمة، رغم تطور الظروف، والوسائل، وآليات التدريس…على عكس مكانته، وصورته في المجتمعات المتحضرة. وطغت الكثير من مظاهر التحقير، والتنكيل، بمن يقوم بالتدريس. حتى صار لفظ “المدرس” مفرغا من أي معنى اعتباري مهم. إذ لا يفرض الآن أي نوع من الاحترام، والتقدير، لا في محيطه الداخلي، ولا خارجه.
وعلى نفس الصعيد تم تقزيم أدوار المدرس بالمغرب، وهمش لدرجة أنه لم يعد، وللأسف الشديد، حتى في منظور الوزارة الوصية واسطة عقد المنظومة التربوية، بعدما سحبت منه الأدوار المركزية التي كانت له. فأصبح تواجده أمرا لا يعطي له أهمية كبرى، حدَّ أن الدهشة، والاستغراب يتعاظمان، ويشتدان عندما تُحقق أحد مكونات البنية التربوية نجاحا، وتميزا، في مناسبة ما، فلا يُقر له أقرب المقربين، بالفضل في ذلك. ولاتدخر المكونات الإدارية بالمنظومة التربوية جهدا في الإساءة إليه، والتطاول عليه، والإشارة إليه بأصابع الاتهام كلما لاحت بوادر فشل النظام التعليمي في مواجهة التحديات، والاستجابة لتطلعات المجتمع.
ومع توالي محاولات الإصلاح، وإصلاح الإصلاح بالمنظومة التعليمية، تأكدت نبوءة المستشار الملكي الراحل محمد مزيان بلفقيه. بعدما برهنت سلسلة من التقييمات المختلفة، على ضعف مستوى مكتسبات، وكفايات عدد لا يستهان به من التلاميذ، على مستوى التعليم الأساسي، كالروائز الممعيرة الوطنية، والبرنامج الوطني لتقييم المكتسبات (PNEA)، أو الدولية مثل الاتجاهات الدولية في دراسة الرياضيات والعلوم (TIMSS )، أو الدراسة الدولية لقياس مدى التقدم في القراءة (PIRLS)، أو البرنامج الدولي لتقييم الطلاب (PISA). وأكدت استنتاجاتها كلها، وربطت الضعف الحاصل في التعلمات الأساس، إلى ضعف السياسات التعليمية من حيث فعاليتهـا، وتماسـكها، وصلاحيتهـا. مما انعكس سلبا على الأستاذ في بيئة عمله في المدرسة، وتوجه انتقائه، وتوظيفه، وتطوره، وترقيه.
وفي سياق التحولات المتسارعة التي يعيشها مغرب القرن الواحد والعشرين، وما عرفه من سعي لتكثيف الجهود لبناء مدرسة عمومية ذات جاذبية، قائمة على مبادئ الإنصاف، والجودة، قادرة على تلبية طموحات الأجيال الصاعدة، ومواكبة تحديات العصر، أعلنت الوزارة الوصية عن المنتدى الوطني للمدرس، كجزء من هذه الاستراتيجية الشاملة، التي تدعي من خلالها تعزيز الدور المحوري للأستاذ كركيزة أساسية في هذا التحول.
وجاء تنظيم المنتدى الوطني للمدرس في سياق تعزيز هذه الدينامية، وذلك على أساس تبني الحكومة نهج الاستمرار في مسلسل الإصلاحات الهيكلية، في أفق بناء مدرسة عمومية ذات جاذبية، وقائمة على مبادئ الإنصاف، والجودة، وقادرة على تلبية طموحات الأجيال الصاعدة، ومواكبة تحديات العصر، تماشيا مع الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2030/2015، لا سيما الرافعة التاسعة منها التي جعلت من تجديد مهن التعليم، وتكوين الأساتذة، أحد الركائز الرئيسية لإصلاح المدرسة المغربية، بينما أفرد القانون الإطار 51-17، المتعلق بنظام التربية والتكوين والبحث العلمي، ست مواد للموارد البشرية.
وقد أعلنت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة تنظيم هذا المنتدى بشراكة مع مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين. واستدعت له 3000 أستاذة، وأستاذ من جميع ربوع المملكة، بهدف تسليط الضوء على الدور المحوري، الذي يقوم به الأستاذ (ة) في تحول المدرسة العمومية، تحت شعار “الأستاذ (ة): محرك تحول التعليم”، مؤكدة أنها اختارت لذلك برنامجا علميا متنوعا، منفتحا على الإنجازات الوطنية، والمقاربات الملهمة على الصعيد الدولي، بأكثر من 150 مداخلة ونشاط، حول أربعة محاور رئيسية، هي:” التكوين في مهنة التدريس”، “التفتح في العمل”، “تبني ممارسات فعالة في القسم” و”كيف نفهم تلاميذنا؟”، في أفق جعله موعدا سنويا.
ولئن كانت الوزارة موفقة في بعث هذا الحوار، والعزم على تعزيز ديناميته بين الأجيال، فإن ما حددته من شروط لانتقاء المشاركين، كمراعاة تمثيلية عادلة بين مختلف الجهات، والتخصصات، وسلك التدريس، بعد تولية الإشراف على اختيار المشاركين للأكاديميات الجهوية، وفق معايير تضمن تمثيلية عادلة بين الجنسين، والفئات العمرية، ومستويات الخبرة، قد نسفه المدراء الإقليميون، بعد إحجامهم على إعمال مبادئ الحكامة والشفافية، والمساواة في عملية الانتقاء، وتغليبهم بدل ذلك لمنطق المحاباة، والولاءات، والزبونية، والمحسوبية، لتغييب الكفاءات الحقيقية، وأفسدوا على الوزير شكيب بن موسى نشوة التفاخر بريادة هذا العرس، وهو ما طالته انتقادات عميقة، وقاسية، زادت من حدتها طبيعة المنزلقات المسجلة.
فمن الناحية التنظيمية، تعددت المنزلقات التي أفسدت منتدى الأستاذ وأفرغته. فعلى مستوى أكاديمية كلميم واد نون سجل المتتبعون، والمختصون العبث الذي صاحب إشراف مدير الأكاديمية بشكل شخصي على إعداد لوائح المشاركين، بعيدا عن معايير الكفاءة، والاستحقاق. وهو ما تؤكده تركيبة لائحة المشاركين بمديريات جهة كلميم – وادنون ، بعيدا عن المعايير التي أعلنتها الوزارة في مذكراتها، وبلاغاتها التواصلية، وهو ما أغصب النقابات، والجمعيات النشيطة بالقطاع بجهة كلميم- وادنون.
وبأكاديمية سوس-ماسة، تبوأت مديرية تيزنيت صدارة المنزلقات ، التي أفسدت على الوزير شكيب بن موسى إنجاح الجانب التنظيمي لمنتدى الأستاذ في نسخته الأولى.
حيث ضربت مديرية تيزنيت، مرة أخرى، عرض الحائط توجيهات مديرة الأكاديمية سوس-ماسة، التي كانت أشد حرصا على المساهمة الإيجابية في إنجاح هذه المحطة. وهو ما جعل هذه المديرية تكون الوحيدة في المغرب التي كبلت المفتشين التربويين، وجعلتهم رهائن عطالة قسرية، وحرمت أزيد من 56 مؤسسة تعليمية من المواكبة والتأطير – دون احتساب المؤسسات الخصوصية – ، وتوقفت ملفات التباري على السكنيات، والمصادقة على التنظيمات التربوية، واستعمالات الزمن، نتيجة بلوكاج توزيع المناطق التربوية، حيث أصر المدير الإقليمي على عدم إصدار مذكرة تحديد المناطق التربوية، وهي المذكرة التي لم تر النور حتى تاريخ 30 شتنبر 2024.
وقد أثارت لائحة مشاركي مديرية تيزنيت انتقادات لاذعة في مواقع السوشيال ميديا، وبمختلف منتديات المجتمع المدني. وقد طفت المنزلقات تباعا بتيزنيت، بداية بتسجيل انتماء 45% من لائحة المشاركين من منتدى الأستاذ لحزب سياسي، فيما تم انتقاء البقية بمنطق الانتماء، والولاء للتنظيمات المدنية التابعة لذات الحزب. وسجل المختصون أن المدير الإقليمي بتيزنيت احتفظ في لائحته بنفس الأسماء التي يؤثت بها مختلف مظاهر الاستعراضات التربوية، التي نظمها في السنوات الثلاث الأخيرة، فتارة يقدم نفس الوجوه كنموذج، ويكرمهم بمسميات مختلفة، وبمناسبة أو بدونها، كاليوم العالمي للمدرس، وغيرها من المناسبات التي يختلقها في فترات الأزمات، وهو ما تشهد عليه الكثير من منشورات المديرية بصفحتها على الفيسبوك.
وتضم اللائحة العجيبة لمديرية تيزنيت موظفا سبق أن حصل على إثارة انتباه نتيجة اصراره على الاشتغال باستعمال غير قانوني. وأقصت لائحة مديرية تيزنيت ، العديد من الكفاءات، كاستبعادها الملحق الاجتماعي فيصل عوام الذي ألف كتابا مجاليا، وحظي إثره باستقبال المدير الإقليمي بمكتبه. كما طالت مسطرة الإقصاء الأساتذة المتخصصين في الأمازيغية، وفي مقدمتهم الدكتور أحمد بلاج، وله سبع إصدارات، ومقالات علمية كثيرة منشورة في كتب جماعية.
وبخصوص هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة التربوية، فقد نالت مقصلة الإقصاء مفتش الرياضيات حسن بوليد، وهو من ذوي الكفاءة العالية، ممن تستعين بهم المصالح المركزية للوزارة في حل العديد من الإشكاليات، وتدليل العقبات، وإنجاز المهام الحساسة. كما طالت لعنة الإقصاء أساتذة مواد التفتح، والتربية البدنية، رغم أن مديرية تيزنيت تزخر بطاقات هائلة معترف بها وطنيا، ولها إشعاع دولي، كالأستاذ الناموس عبدالله في تخصص التربية البدنية، وعمار أجبور، وذ. علي البوخاري في التربية التشكيلية، إسوة بالأستاذ هشام الطباع، مهندس الشراكة مع السفارة اليابانية في مجال الأوريكامي، وعميدة الأستاذات المجددات بمدرسة مولاي الزين… واكتفت المديرية بلائحة يتيمة، أثارت غضب، وحفيظة، واشمئزاز المتتبعين، والمختصين، ومختلف فعاليات المجتمع المدني، والنقابات.
ويذكرنا النقاش الحالي في الساحة التربوية بالمغرب، ومبادرات الوزارة للاصلاح، كتنظيم منتدى الأستاذ، بالمستشار الملكي الراحل مزيان بلفقيه، عندما وصف الإصلاح بتاريخ 15 فبراير 2006 بالقول :” افتقر الإصلاح إلى الدعم من طرف الرأي العام، ربما كان علينا تنظيم نقاش شعبي…علينا أن ننجح في إصلاح المدرسة…علينا أن نلقن أبناءنا مبادئ صحيحة من قبيل تحريم الغش، والاستفادة من أوضاع خارج سلطة القانون. علينا أن نبرز بالمقابل قدسية قيم العمل، والجهد، والإحساس بالمسؤولية“، وما وجهه حينها من نقد لاذع للنخب المغربية، على عدم الثقة بالمدرسة العمومية. فهل تتحقق نبوءته عندما قال أن التكنوقراط لا يتوفرون على أي مشروعية لتقديم برامج، خصوصا أن الوزير شكيب بن موسى احتفظ داخل أغلب بنيات الإدارة، وعلى مستوى المديريات الإقليمية بعقليات قديمة، وفاشلة، تقاوم، وتحبط بطبيعتها المتخلفة، والمتجاوزة، كل أشكال الإصلاح المنشودة، وتنبعث من تدبيرها روائح نثنة، تشي بتفشي الفساد بكل أشكاله؟