مصطفى إهدار
اعلم – وفقك الله – أن المتأمل في حال الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان وما جاء به في الجلسة العمومية لجواب الحكومة والتصويت على الجزء الثاني من مشروع قانون المالية برمته، المنعقدة يوم الجمعة خامس عشر نونبر من عام أربعة وعشرين وألفين، ليجد أن الخطاب السياسي قد آل في زماننا هذا إلى حال عجيبة، وطريقة في التدبير غريبة، إذ يحسب القائلون أن كثرة الأرقام تغني عن صدق المقال، وأن تضخيم الميزانيات يكفي لإثبات العدل الاجتماعي في الأحوال.
فأما ما جاء في قول الوزير في شأن ميزانية الصحة التي رُفعت إلى ثلاثة وثلاثين مليار درهم، فهو قول يتجاهل واقعاً مريراً في قطاع الصحة: مستشفيات عمومية تعاني من نقص حاد في الأطباء حتى صار نصيب كل طبيب ألفي نسمة من المواطنينوأكثر مخالفاً معايير منظمة الصحة العالمية، أقسام مستعجلات تغص بالمرضى، وقاعات انتظار تكتظ بالمواطنين، وأجهزة فحص معطلة، ومرضى سرطان ينتظرون أشهراً للعلاج الكيماوي، ومرضى قلب يضطرون للسفر مئات الكيلومترات بحثاً عن طبيب مختص. فللعجب، كيف تتضخم الميزانيات وتتفاقم المشاكل؟
فالمستشفيات الجامعية الكبرى تتركز في المدن العظمى، تاركة أهل البوادي والمناطق النائية فريسة للإهمال والنسيان. والأطباء يفرون من المستشفيات العمومية إلى القطاع الخاص أو يهاجرون إلى خارج البلاد طلباً للرزق والعيش الكريم. والمواطن البسيط ما زال يضطر لبيع ممتلكاته أو الاستدانة ليتمكن من العلاج في المصحات الخاصة.
إن العبرة ليست في كثرة الإنفاق بل في حسن التدبير، وليست في ضخامة الميزانية بل في عدالة توزيعها وحكمة استعمالها. وهذا ما ينطبق أيضاً على الدعم الاجتماعي المباشر، الذي لا يعدو كونه لصاقاً على جرح غائر عميق في ظل تضخم يلتهم القدرة الشرائية للمواطنين، وفي غياب معالجة جذرية لأسباب الفقر من بطالة وضعف الاستثمار في المناطق المهمشة.
واعلم – أيها المتأمل الحصيف – أن العجب ليزداد والدهشة لتتضاعف من تجرؤ الوزير على تطويع التاريخ وتحريف الوقائع في استحضاره لشخص عبد الرحمان اليوسفي، رحمه الله. فها هو يدّعي قراءة “أحاديث فيما جرى” ويزعم فيه ما لم يكن، كمن يدّعي رؤية السراب ماءً في الصحراء.
ولعمري، إن في هذا الادعاء لمغالطة عظيمة وتدليساً على الرأي العام، إذ كيف يستقيم أن يُنسب إلى كتاب اليوسفي ما لم يكتبه، وكيف يصح أن يُختزل فكر رجل ناضل نصف قرن في إشارة عابرة لحزب أو شخص؟ فها هي كلمات اليوسفي في كتابه تشهد عليه وتفضح زيف الادعاء.
والأعجب من ذلك كله أن يأتي من يدّعي تمثيل قيم اليوسفي وهو ينتمي إلى ما كان اليوسفي نفسه يصفه بـ”الأحزاب الإدارية”في مدكراته، بل وكان يراه جزءاً من “التحالف المصلحي الاستغلالي” الذي دبر – على حد تعبيره – “أوسخ عملية انتخابية عرفتها بلادنا”. فيا للمفارقة العجيبة! أيدّعي الوريث من لم يكن له في الميراث نصيب؟
ثم إن الأمر ليزداد غرابة حين يتحدث الوزير عن زيارة ليلية لليوسفي لبيت أحد التجمعيين، وكأن اللقاءات السياسية العابرة تمحو تاريخاً من النضال والمواقف! فهل نسي الوزير أن اليوسفي هو من وصف بمرارة كيف أن “جهاد أكثر من ثلث قرن، جهاد من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ضد الفساد والرشوة واستغلال النفوذ” قد قوبل بممارسات تناقض كل هذه القيم؟
وإن من أعظم المفارقات ايضا أن يأتي من يدّعي تمثيل قيم اليوسفي في الصدق والوفاء، ثم يقع في تحريف كلامه وتأويله على غير مراده! فأين الصدق في نسب ما لم يقله اليوسفي إلى كتابه؟ وأين الوفاء في تجاهل مواقفه الصريحة من الممارسات التي كان ينتقدها؟
ومن أشد مظاهر التناقض في خطاب الوزير بيتاس أن يتحدث عن انسجام الخطاب مع الممارسة، وهو الذي يدّعي تبني فكر اليوسفي ومبادئه، متناسياً أن زميله في الحزب والحكومة، السيد كاتب الدولة لحسن السعدي، قد اتهم تجربة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي في رئاسة الحكومة بأنهم باعوا مؤسسات البلاد! ضمن مهرجان حزبي في مدينة أكادير، فكيف يستقيم الحديث عن انسجام الخطاب مع الممارسة ممن لم يحقق الانسجام في خطابه السياسي والحزبي اولا؟ إنها لمعضلة تسبق انسجام القول مع الفعل، إن أول مراتب الانسجام هو انسجام المرء مع نفسه وجماعته، فكيف بمن يدعو إلى انسجام الخطاب مع الممارسة وهو لم يحقق الانسجام في خطابه مع خطاب رفاقه؟ أليس هذا من باب تقديم العربة على الحصان، أو من باب طلب الفرع قبل تحقيق الأصل؟
فيا أيها المتأمل في هذا المقام، إن استحضار الرموز الوطنية يقتضي الأمانة في نقل مواقفهم، والصدق في تمثل قيمهم، لا أن نجعل من ذكراهم جسراً نعبر عليه إلى مآرب سياسية عابرة. وإن من أشد أنواع الظلم أن نُلبس التاريخ ثوباً غير ثوبه، ونُنطق الموتى بما لم يقولوه في حياتهم.
وأما قوله في شأن الحوار الاجتماعي وما خصص له من أموال، فهو كمن يفاخر بكثرة الطعام في الوليمة وقد دعا إليها فئة قليلة من الناس، إذ كيف يستقيم الحديث عن حوار اجتماعي والشغيلةتشكو من تجاهل مطالبها الأساسية؟ وكيف يصح الافتخار بالزيادة في الأجور في ظل ارتفاع صاروخي في أسعار المواد الأساسية؟
وأما انتقاده للنواب الذين يستعملون منصات التواصل الاجتماعي، فهو كمن ينتقد استعمال الهاتف ويدعو للعودة إلى الحمام الزاجل، إذ كيف يمكن للعمل السياسي أن يتطور دون مواكبة تطور وسائل التواصل؟ وكيف يصح انتقاد التواصل المباشر مع المواطنين في زمن أصبح فيه الرأي العام قوة لا يستهان بها بل قوة شريكة في الاقتراح والاعداد والتنفيذ والتقييم بمقتضى الدستور؟
فاعلم ، أيها الناظر في هذا المقال، أن حقيقة السياسة لا تكمن في تضخيم الأرقام وتجميل الكلام، بل في قدرتها على تغيير واقع الناس وتحسين أحوالهم. وإن من أشد العيوب في التدبير السياسي أن يظن المدبر أن المواطنين لا يدركون الفرق بين الشعارات والإنجازات، وبين الوعود والحقائق.
وفي الأخير، اعلم – أيها المتبصر في شؤون السياسة وأحوالها – أن من أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يدّعي الوفاء لقيم اليوسفي من يسير في طريق معاكس لنهجه، كمن يدّعي السير نحو المشرق وهو يتجه غرباً!
فكيف يستقيم -والله در السائلين- أن تدّعي الوفاء لقيم رجل ناضل ضد الفساد حكومةٌ تتناسل في ظلها شبكات المصالح وتتكاثر في عهدها ممارسات الريع؟ وكيف يصح أن تنتسب إلى إرث من حارب المحسوبية حكومةٌ باتت التعيينات والمناصب في عهدها تُوزع كما تُوزع الهدايا في المواسم والأعياد؟
ولعل من أشد ما يثير العجب أن يدّعي الانتساب لفكر اليوسفي من جعل البطالة تستشري في المجتمع كما يستشري النمل في الخشب النخر، حتى أضحى الشباب المتعلم يبحث عن لقمة العيش في قوارب الموت! فأين هذا من نهج رجل كرّس حياته لمحاربة الفقر والتهميش؟
وإن المتأمل -وما أقل المتأملين -ليدرك أن قيم اليوسفي لا تورث كما يورث المال، ولا تنتقل كما تنتقل الألقاب والمناصب. إنما هي غرس يُسقى بماء النضال، وشجرة تنمو في تربة المبادئ الوطنيةالأصيلة. ولذلك فإن الأحق بإرث اليوسفي هو بيته الأول وحزبه الأصيل، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المدرسة التي تخرج منها وعلم فيها وناضل من أجلها.
فيا للعجب -والعجب لا ينقضي -كيف يدّعي الوفاء لقيم الرجل من يمارس ما حاربه؟ وكيف يزعم الانتماء لفكره من يناقض مبادئه؟ إن الاتحاد الاشتراكي، بتاريخه النضالي وتراثه الفكري ومبادئه الراسخة، هو وحده القادر على إنجاب المزيد من أمثال اليوسفي، لأنه المصنع الذي يصهر المناضلين على نار المبادئ، والمدرسة التي تخرّج المكافحين على دروس النضال.
فاعلم -أيها المتأمل -أن الانتساب إلى قيم اليوسفي لا يكون بالتشدق بذكره في المناسبات، ولا بالتباكي على إرثه في الخطابات، بل يكون بمواصلة نضاله ضد الفساد والاستبداد، وبحمل مشعل الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وإن من أعظم أنواع الخداع أن يتستر المفسدون بعباءة المصلحين، وأن يتزين أهل الفساد بريش أهل النضال.
وهذا ما تيسر من القول في نقد هذا الخطاب، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.