أجرت أسبوعية المشعل في عددها الأخير، حوار مطولا مع الأستاذ امحمد بوستة الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، ونظرا لحمولاته التاريخية وأهميته الراهنة، تعيد “هسبريس” نشر الحوار الذي أجراه الزميل عبد العزيز كوكاس .
تفصلنا عن عام 1994، 16 سنة، وهي مدة كافية ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، نريد أن نعرف السر الحقيقي لرفضكم عرض الملك الراحل حول التناوب؟
في الحقيقة، كل ما قيل عن تلك المرحلة من نهاية القرن الماضي، كان مرتبطاً بمسألة جوهرية في النضال السياسي في المغرب، وهي نزاهة الانتخابات، لقد كان الاتفاق هو أن نتحمل ككتلة ديمقراطية بعد انتخابات يونيو 1992 وشتنبر 1993 أمر تسيير الشأن العام، وعرض عليَّ الملك الراحل أمر تشكيل الحكومة، فأجبته رحمه الله، بكل وضوح.. نحن على استعداد لتحمل مسؤوليتنا لكننا نرى أنه لم يتم احترام الاتفاق الذي كان بيننا.
ما هي تفاصيل هذا الاتفاق؟
لقد كنا بصدد إرساء تغيير جذري للإصلاح في المغرب، ينطلق من قاعدة نزاهة الانتخابات وضمان شفافيتها، ووعد الملك الراحل بأن يستعمل كل سلطاته وصلاحياته الدستورية لضمان نزاهة الانتخابات، وأن تنبثق الحكومة، في احترام تام لإرادة الناخبين، من صناديق الاقتراع، وأن تأسيس الحكومة يكون من طرف جلالة الملك، وهذا حق تمْنحه جل الدساتير لرؤساء الدول، وأن تكون هذه الحكومة مساندة من قبل أغلبية برلمانية، ثم بُعْدُ سلطة مؤسسة الوزير الأول، أي أن جلالة الملك يعين الوزراء، بناء على اقتراح الوزير الأول. وفي هذا السياق جاء العرض الملكي لتحمل الكتلة مسؤولية التسيير الحكومي.. والكل يعرف اليوم الأجواء التي مرت فيها انتخابات شتنبر 1993 بالخصوص، الشيء الذي جعلنا ككتلة ديمقراطية بمجموعنا لا نحصل على أغلبية تمكننا من تشكيل الحكومة، بمعنى أن القاعدة السياسية التي بُني عليها الاتفاق، لم تُحتَرم، وبالتالي انهارت كل التعاقدات الأخرى.. فلم تكن الانتخابات نزيهة،ولم نحصل ككتلة على أغلبية سياسية في البرلمان.. و
(مقاطعا) لكن كان الحسن الثاني قد ضمن لكم دعم حزبي التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية خاصة؟
صحيح، لكني رفضت هذه الأغلبية المستعارة، لأني لا أقبل مثل هذه التلاعبات.. بأن يُضمن لي آخرون خارج الكتلة، للتصويت على برنامجي السياسي.. وقد سبق لي قبل شهور قليلة على العرض الملكي، أن ألقيت خطاباً قوياً في البرلمان، أقول فيه بالحرف، إن الكارثة الكبرى في المغرب هي تزوير الانتخابات الذي يجعلنا دوماً في صفوف الدول المتخلفة المطعون في انتخاباتها، والتي لا تمتلك مؤسساتها أي مصداقية، فما معنى وجود حكومة منبثقة عن برلمان ناتج عن انتخابات مزورة، هذا ما قلته بالجهر في البرلمان، وخاطبت يومها رئيس الحكومة آنذاك السيد محمد كريم العمراني وبجانبه وزير الداخلية إدريس البصري، وقلت لهما أنتما السبب في الكارثة التي يعرفها المغرب، واستغربت كيف يهنئ الوزير الأول السيد كريم العمراني وزير الداخلية على نزاهة الانتخابات.. وقلت لهما: “أنتما لم تحترما إرادة الملك الذي وعد بانتخابات نزيهة وشفافة..”، فلما عرض عليَّ الملك الراحل أمر تشكيل الحكومة، قلت له أولا نحن ليس لدينا أغلبية بسبب تزوير الانتخابات، وثانيا، أمام أخلاقي والتزاماتي بمبادئ أدافع عنها، لن يُقبل مني أبداً أن أقف أمام برلمان بهذا الشكل، وأقدم حكومة وبجانبي إدريس البصري الذي كنت أقول فيه كل هذا الكلام.
هل هو بالفعل التزام بقناعات مبدئية واحترام لتعاقدات أخلاقية مع مناضليكم ومع الرأي العام، أم أن الأمر أصبح ذا طابع شخصي في المواجهة بينكم وبين وزير الداخلية؟
لم يكن لدي أي صراع شخصي مع إدريس البصري، لقد كان لي صراع مع وزير الداخلية وسلوكاته في عدم احترام الإرادة الشعبية والإساءة إلى المغرب ومؤسساته، وأعتبر أن كل الإخوان في الكتلة أو في حزب الاستقلال، كانوا يساندون موقفي، واعتبروا أني على حق. وما معنى ألا يحترم السياسي التزاماته وتعاقداته؟! إنها هي الرابط الوحيد التي تجمعه بالرأي العام.. أنا لا أفهم كيف يمكن أن أنعت وزير الداخلية بكل ما قلته فيه في البرلمان، وآتي بعدها وأشكل حكومة فيها إدريس البصري؟! هذه هي الأسباب الحقيقية.
ألم تندموا على هذا الموقف، ليس فقط لمصلحة شخصية في أن يكون محمد بوستة وزيراً أول وحزب الاستقلال هو عصب الحكومة إضافة إلى الكتلة، بل أيضا لمصلحة المغرب، خاصة وأنه بعد أربع سنوات قَبِل صديقكم عبد الرحمان اليوسفي أن يكون وزيراً أول وفي ظل شروط أدنى مما توفَّر لديكم في 1993 و1994 عبر العرضين الملكيين؟
أنا لم أندم على هذا الموقف أبدا، رغم أنه كانت هناك معارضات في صفوفنا تدفع باتجاه الانخراط في الحكومة.. كيف تطورت الأمور فيما بعد؟ وكيف قبل السي عبد الرحمان اليوسفي الدخول إلى الحكومة في 1998؟ هذه مسألة أخرى، ربما كانت هناك ظروف جديدة قد تغيرت.. المهم بالنسبة لي كان عندي مبدأ، ظللت أدافع عنه بشكل معقول وواضح..
ذكرتم أنه كانت هناك معارضات لموقفكم من عدم الدخول إلى الحكومة، هل كانت من داخل قيادة حزب الاستقلال أم من طرف أصدقائكم في الكتلة؟
كانت من الطرفين معا في الحقيقة، لكني تمكنت من إقناع من لم يكونوا على نفس رأيي، وقد أبرزت الوقائع التالية في المغرب، صحة وجهة نظرنا كحزب وككتلة.
بم فسرتم صدور بلاغ للديوان الملكي في 11 يناير 1995، يرفع وزير الداخلية إلى مؤسسة دستورية، ويصبح إدريس البصري..
(مقاطعا وهو يضحك) من المقدسات.. بالفعل اتصل بنا أحمد رضى اكديرة، أنا والسي محمد اليازغي، وقال بأنه نظراً لرفضك العرض الملكي، أن جلالة الملك قرر إصدار بلاغ وأمر بألا يُذاع قبل أن تطَّلع عليه، قلنا له مرحبا، ولما تلى علينا نص البلاغ، قلنا له، أنا وسي محمد اليازغي، ها هو ما زال حياً، من حق صاحب الجلالة أن يؤخر التناوب، لأنه ارتأى أن شروطه لم تنضج بعد، لكن اعتبرنا إدخال إدريس البصري ضمن المقدسات، عيبا وأمرا مشينا. فالمقدسات معروفة لدى كل المغاربة من النظام الملكي إلى الدين الإسلامي، أما أن نتحدث عن الأشخاص بالمقدسات فهذا عيب.. لكن اكديرة، رحمه الله، أصرَّ على أن هذه الكلمة وضعها جلالة الملك ويجب أن تبقى في نص البلاغ، فقلنا له حينها، لكم الحق أن تصدروا البلاغ الذي تريدون، لكن بالنسبة لنا نرى أمر تقديس وزير الداخلية فيه قذف في حق المغرب، وفي حق الملك.. لذلك نطلب من جلالة الملك حذف هذه العبارة، لكنه أصر على بقائها، وتم تأخير صدور البيان وأعاد الاتصال بنا ليلا، لمراجعة موقفنا وظللنا مصرين على موقفنا، وبالتالي لم يُذع نص البلاغ إلا في صبيحة اليوم الموالي..
ما هي رسالة إلحاح الملك الراحل على الإبقاء على هذه العبارة.. “رفع وزير الداخلية إلى مؤسسة دستورية”.. خارج أن هذا الشخص الذي رفضتم عرض الملك لتولي الحكومة بسببه.. يرفعه الحسن الثاني إلى طابع القداسة؟
والو، أعتقد أن أحمد رضا اكديرة كان يقوم بدوره، وهو إفساد هذا التلاقي بين الملك والكتلة، وكان ضد أن يصبح حزب الاستقلال على رأس الحكومة.. لذلك قام بتصريف هذا الأمر، فهو له نظرية في هذا البعد ضد حزب الاستقلال من زمان، وظل يكشف عن مخططه كلما سنحت له الفرصة بذلك.
هل كان رأي محمد اليازغي على نفس موقفكم؟
تماما، فقد ظل السي محمد اليازغي يلح أيضا على حذف هذه العبارة، وكان موقفه مشرِّفاً جداً، كنا متفقين على طول الخط في هذه المسألة.
ألم يقل لكم الحسن الثاني جرِّبوا إدريس البصري في حكومتكم وعلى ضماناته؟
هو ألحَّ عليَّ، لم يقل جرِّبوه، ولكن قال بأن إدريس البصري في خدمة البلاد وسيكون رهن إشارة الحكومة، لكن هذا لا يغير شيئا من موقف مبدئي وعلني، لأنه إذا كنا سنحترم اتفاقاتنا، وسنكون جديين في تحقيق التغيير الجذري الذي اتفقنا على أسسه، من الانتخابات النزيهة إلى تعيين الوزير الأول من الأغلبية، واحترام صلاحيات الوزير الأول في اقتراح أسماء الوزراء الذين يعينهم جلالة الملك وهذا من حقه، فأنا شخصيا لن أقبل أن يكون بين وزراء حكومتي، رجل ارتبطت به كل أشكال التزوير والفساد.
لقد كان هناك شيء من العبث السياسي.. في 1992 يخطب الملك الراحل بأنه لا يقبل بالتزوير وأنه حرَّمه على نفسه وعلى حكومته، ومع ذلك تم تزوير الانتخابات.. وفي 1996 قال رحمه الله: “سأستعمل كل صلاحياتي الدستورية لمنع التزوير”، ومع ذلك يحدث التزوير بشكل أفظع من الأول… كيف تفسرون التزامات نظرية لأكبر سلطة دستورية في البلد، وانتخابات على أرض الواقع تظل تتعرض للتزوير والإفساد؟
هذا هو المشكل فهاذ البلاد حتى اليوم، مع كامل الأسف، منذ أول استشارة شعبية في 1963، عندما تأسس الفديك حتى الآن، لقد كان التزوير علنيا، وحتى حين وقع تغيير في فكر الملك الراحل في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، فإن كل ما أعلن عنه جلالة الملك لم يطبق، وهنا تبقى دائرة الغموض واضحة جدا.
إن الأمر لا يعني إلا أحد شيئين: إما أن الملك الراحل كان يؤمن بما يقول ومحيطه هو الذي لم يحترم خطبه وما التزم به أمام الرأي العام، وهنا سندخل إلى من له سلطة القرار، وهو أمر صعب أن نقول بصدده أن الملك الراحل لم يكن يعلم بوقائع التزوير أو بأنه يُفرض عليه الأمر الواقع، وإما أنه لم يكن يُسوِّق سوى أوهام هو أول من يعرف أنها لن تطبق.. كيف تؤِّولون الأمور بشكل جلي؟
(ضاحكا) ها أنت بدأت توسع من دائرة الغُموض!
لا حظوا معي أستاذ محمد بوستة هذه المفارقة: دستور 1992 كان أقوى من دستور 1996، رفضتم الأول وصادقتم على الثاني، انتخابات 1992/1993 أقل تزويرا، وفي 1994 كانت الضمانات السياسية أقوى منها كما في 1998، رفضتم أنتم تشكيل الحكومة في 1994 لاعتبارات أخلاقية، وقبل صديقكم اليوسفي بها في 1998 في ظل انتخابات أكثر تزويرا.. أين يوجد المنطق هنا؟
كل ما قلْْتََه صحيحا، ويمكن أن أذهب معك بعيداً إلى الوراء، لأقول لك إن دستور 1962 كان جد متقدم على الدساتير التي تلته، بما فيها دستور 1996 الذي يحكمنا الآن. لكن للأسف، وبحكم آثار الانفصال مع إخواننا، لم نكن على نفس الرأي، إخواننا الاتحاديون كانوا يطالبون بمجلس تأسيسي لوضع الدستور، وكان علال الفاسي رحمه الله، يقول لهم الآن الدستور موجود، فلا ينبغي أن نُعيد أسئلة من وضع الدستور؟ ومن منحه؟ لأنه يجب أن نخرج من حالة اللادستور إلى حالة الدستور، وحينها نخوض معركة من أجل إصلاحه وتغييره، وهي معركة طويلة النفس، لقد اعتبر السي علال، أن دستور 1962 يضع اللبنات الأولية والأساسية لخروج البلاد من حالة الفوضى إلى دولة المؤسسات، ومن داخل هذه المنظومة الدستورية يمكن أن نصلح ونغير الأوضاع، خاصة فيما يخص سلطة الوزير الأول واختصاصاته..
برأيكم، لماذا لم يكن الملك الحسن الثاني يسمح باختصاصات أوسع للوزير الأول؟
في المجال الدستوري، هناك أمور تكتب في الدستور وهناك أمور تفرضها الممارسة الدستورية، مثلا تسمية الوزراء، هذه مسألة أساسية، فرئيس الدولة هو الذي يسمي الوزير الأول وباقي الوزراء، لكن الاقتراح يدخل في مجال الممارسات الدستورية، كذلك استقالة الوزراء يجب أن تكون للوزير الأول قبل الملك، وكان الاتفاق مع الحسن الثاني، أنه ليس من الضروري أن تُكتب هذه الأشياء في الدستور، ولكن أن تمارس وتُقعَّد في العمل الدستوري… “هاذ الشي ما يَمْكنش نْسَتْروه كثر من اللازم”.. لقد كان بجانب الملك، أحمد رضى اكديرة الذي أعتبر أنه هو صاحب مثل هذه الفتاوى على الحسن الثاني.
لحظة تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيراً أول في فبراير 1998، كان أول شخص يزوره بعد مغادرته للقصر الملكي، هو أنت، أعتقد في هذا المنزل الذي أحاورك فيه الآن، ماذا دار بينكما بالضبط؟
نعم، بالضبط في هذه القبة.. صراحة ولا أخفيك أني لم أُفَاجأ كثيراً لأمر تعيين السي عبد الرحمان، لكني تفاجأت قليلا… لم أتفاجأ كثيرا، لأنه لما غادر اليوسفي المغرب احتجاجا على تزوير انتخابات شتنبر 1993، واستقر بفرنسا بمدينة “كان”، كنت من الناس الراغبين جداً في عودة عبد الرحمان اليوسفي باتفاق مع جلالة الملك، لأننا كنا نريد أن نُتم ما بدأناه مع المرحوم عبد الرحيم بوعبيد منذ 1989، الذي وَقَّعت وإياه مذكرة مهمة جداً، للإصلاح الدستوري والسياسي، لم تطبق حتى الآن.. وقد زرته في “كان” وألححت عليه كثيراً للعودة، وكان الملك الراحل، أرسل إليه مستشاره أحمد عواد وبوشنتوف.. المهم، عاد عبد الرحمان اليوسفي إلى المغرب، واستقبلنا الملك الحسن الثاني، أنا وإياه، حيث عرَّفه على ولي العهد، جلالة الملك محمد السادس الآن، بصفته مقاوماً ومناضلاً.. يومها قال لنا الحسن الثاني، بأنه يجب أن نتجاوز بعض الأمور، “أنتما ما تْحَكْروش بزَّاف وأنا غا نساعد”، بقيت الأمور هكذا، حتى تفاجأت بمكالمة هاتفية من عند السي عبد الرحمان اليوسفي، الذي قال لي: “أنا خارج من القصر الملكي وجاي عندك”، قلت له: “مرحبا بك”.. جاء عندي وقال لي: “إن الملك أرسل في طلبي، وقال لي إن الأمور كلها يمكن أن تسير بالشكل المطلوب والمغرب في حاجة إلينا، والسي محمد بوستة رجل أقدره وهو مستعد كل لحظة لخدمة بلده و.. و.. إلى آخره. وعرض علَيَّ الملك أمر الوزارة الأولى وقَبلت، على أساس أننا سننقذ البلاد من الأزمة، و”نعملوا مع بعضنا وراني قبلت بشرط يكونوا الاستقلاليين معانا””..
وهنا تفاجأت قليلا، فقلت له: “مبارك مسعود، ولكن كاتعرف آسي عبد الرحمان أننا عقدنا مؤتمراً استثنائياً باتفاق معكم، وقلنا إن الانتخابات كانت مزورة، وأن حزب الاستقلال لن يزكي أو يتعامل مع أي مؤسسات منبثقة عن التزوير، لذلك فأنت قبلت من جلالة الملك أمر تحمل مسؤولية الوزير الأول دون أن تستشيرني، أنا أحترم رأيك، لكن لا يمكن أن أقول لك، نعم سنشارك معك في الحكومة التي ستشكلها، فهذا أمر ليس بيدي، وليس من اختصاصي، لأنه شأن المؤتمر ولا يمكن أن أعقد مؤتمراً استثنائيا آخر لألغي بيان المؤتمر السابق”، ومن الصدف أن المؤتمر الوطني لحزب الاستقلال كان سينعقد في نهاية نفس الشهر، فبراير 1998، وقلت له: “المؤتمر هو الذي سيقرر أمر المشاركة من عدمها..” ظل السي عبد الرحمان اليوسفي يلح علي لمشاركتنا في الحكومة، فقلت له: “كل ما أستطيع أن أضمنه لك، وأعدك به.. هو أني سأكون من المدافعين عن مشاركة حزب الاستقلال في حكومتك، نظراً للالتزامات الأخلاقية التي بيننا.. ولكن مستحيل أن أقول لك الآن: نعم سنشارك”.. وكذلك كان، حيث انعقد المؤتمر الوطني وكنت من الذين طالبوا من المؤتمرين برفع الحجز السابق، من أجل مشاركة الحزب في حكومة السي عبد الرحمان.
هل كنت مقتنعا بضرورة مشاركة حزب الاستقلال في حكومة اتحادية؟
كنت مقتنعا، ولازلت حتى الآن، بفكرة واحدة، وهي الحفاظ على العمل الوحدوي مع إخواننا في الاتحاد الاشتراكي، لقد كنت حريصاً على تطبيق وصية سيدي علال، الله يرحمو. وسأقولها لك لأول مرة، ساعة واحدة قبل موته برومانيا، ببوخاريست، كنت صحبته أنا وسيدي حفيظ القادري، لقد أعطانا وصيتين: الأولى ألا نبتعد عن الملك، لأن المحيطين به يفسدون عليه العمل، “ها الأرض” تتمزَّق في اتفاق إفران واتفاق تلمسان، ها الكارثة الكبرى، إذا قضى ونزل، لو انقلب الجيش على الملك أو قتله، فإن المغرب سيدخل إلى متاهات الأنظمة العسكرية التي لن تأتي بأي خير إلى البلد.. أما الوصية الثانية، فهي أن العمل السياسي لحزب الاستقلال يجب أن يكون مع الوطنيين، الإخوان الذين انفصلوا عنا.
هذه الوصية التي حافظت عليها طيلة مسار تحملي لمسؤولية الأمانة العامة للحزب، هي التي أملت عليَّ موقف المساندة، لما خاطبني السي عبد الرحمان اليوسفي في شأن تشكيل الحكومة.
لماذا لم تشاركوا شخصيا، بوزنكم السياسي والرمزي، في حكومة التناوب التوافقي إلى جانب اليوسفي؟
الأخ عبد الرحمان طلب مني أن أشارك شخصيا إلى جانبه، والحقيقة أننا كنا اتفقنا في قيادة حزب الاستقلال ألا نكون خارج الحكومة ولكن ألا نشارك كثقل بالقيادة وأن نقدم جيلا جديداً من المناضلين، والحقيقة أننا قدمنا شباناً مشرفين قاموا بواجبهم على أكمل وجه، وباتفاق مع الأمين العام السي عباس الفاسي، الذي قاد المفاوضات حول تشكيل الحكومة مع السي عبد الرحمان في هذا البيت نفسه.
هل كان الأمر يتعلق برفض مبدئي، بالنسبة للسيد بوستة، أم هو مرتبط ببعد شخصي.. من مشروع وزير أول إلى مجرد وزير في حكومة اليوسفي؟
المسؤوليات في حياتي السياسية كانت هي التي تأتي إليَّ لا أنا الذي أذهب لاهثا وراءها، لأنني كنت أقدِّر دوماً متاعبها، وما همتني يوماَ قشور التسميات والمناصب، لأن مصلحة الوطن كانت دوماً – كما علَّمنا سيدي علال – أقوى من مصلحة الحزب، فبالأحرى المصلحة الخاصة.. لذلك أقول لك، من حيث المبدأ لم يكن هناك أي رفض، لأنني دافعت على مساندة إخواننا في الاتحاد الاشتراكي إبان تشكيل الحكومة، لكن اتفقنا ألا ننزل بثقل القيادة الحزبية، هذا كل ما في الأمر.
عشتم إلى جانب علال الفاسي، الذي كان يتصرف كرجل دولة، لا كقائد حزب سياسي، و…
(مقاطعا) كان أكثر من رجل دولة.. علال الفاسي الذي رافقته وتتلمذت عليه، كان شخصا خارقا للعادة، يمتلك بُعد نظر قوي، ويفكر بشكل بعيد في الأمور الظرفية نفسها، كان يملك القدرة على التأمل وحدس المستقبل، وله فراسة لا تخطئ في النظر إلى عمق الأشياء، كان يرى بنور الله.. وقد وقعت لي معه إشراقات تُبرز أنه لم يكن إنساناً عاديا بكل المقاييس.
مثلا؟
حين عاد سيدي علال من المنفى، بعد حادث الانفصال في 1959، وقت التشنج مع الإخوان الاتحاديين، جاء رحمه الله، من مدينة طنجة إلى الرباط، وكان مريضا بمرض النقرس “la goute”، كنا مجموعة ضمنها السي محمد اليزيدي، محمد بنشقرون وآخرون، أدينا قسماً لنفوٍّض له أمر تسيير شؤون الحزب، ولما جاء دستور 1962، كان التباين واضحا بين طرحنا وطرح الإخوان الاتحاديين، وجاءت انتخابات 1963، وهنا تبرز عبقرية سيدي علال، كان الاصطدام بين الاستقلاليين والاتحاديين يصل إلى الاحتكاك الجسدي ووصل إلى أبعد مدى، ومع ذلك قال لنا علال الفاسي لا بد من مخاطبة إخواننا لكي ندخل الانتخابات بمرشح مشترك في 1963، وبالفعل تشكلت من حزبينا لجنة كان يمثل الاتحاديين فيها المهدي بن بركة الله يرحمو ومحمد منصور شافاه الله، وكنت أنا والطاهر غلاب عن حزب الاستقلال، واتفقنا على المرشح المشترك في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى كان كل واحد منا يتنازل عن المنافسة في الدائرة التي يتقدم فيها الآخر..
مسألة ثانية، كنا كشباب، مثل باقي الجمهور العربي، منبهرين بالتجربة الناصرية وبرمزية شخصية جمال عبد الناصر وما قام به في مصر في بداية انقلاب يوليوز 1956، لكن سيدي علال كان يقول: “هاذ الشي مزيان، لكن يجب أن تكونوا حذرين، هاذي راها ماشي ثورة لصالح الشعب، هذا إجهاض للثورة، بسبب غياب الأحزاب والمؤسسات الديمقراطية الحرة وإعلام خارج سلطة الدولة، ووجود اختلاف في الرأي وحرية المعارضة..” والتاريخ أبرز صحة وجهة نظره الثاقبة، أكثر من هذا، كان السي علال دائما يجد لنفسه مخرجا ذكيا من الورطات التي يجد فيها نفسه، معنا في القيادة أو مع الملك الحسن الثاني…
(وهو يضحك) مرة خلال سفره الأخير الذي رافقته فيه، ذهبنا إلى شيراز حيث قدّم عرضاً حول ما كان يسميه “المدرسة النحوية للغرب الإسلامي: الأندلس والمغرب”، ولاَحِظْ أنت فقط هذا الاختلاف في اهتمامات السي علال، ها اللغة نحواً وبلاغة، ها الفقه وأصوله.. ها الفلسفة والفكر القانوني والدستوري، ها الشعر والأدب، ها التنظير العميق للمقولات المذهبية، ها إنجاز التقارير السياسية والمحاضرات والندوات التي يطوف بها العالم وداخل المغرب أيضا، ها الممارسة السياسية التي يحضر في كل تفاصيلها… أي طاقة خارقة كانت لهذا الرجل؟!
المهم كانت الذكرى الـ “1200” لوفاة سيبويه بشيراز، وحضر سيدي علال بمداخلته.. كنت أنا والسي عبد العزيز بن عبد الله، جاء إيراني إلى المنصة وقدم سؤالا إلى سيدي علال المحاضر، باللغة الفارسية، ولم يذكر سوى آيتين وحديث نَبوي شريف باللغة العربية: “أنا أبلغ العرب، بيد أني من قريش..”، فقط هذا ما نطقه بالعربية، فأخذ سيدي علال الكلمة ليجيب المتدخل.. ويجب أن تعرف من كان حاضراً في هذه الندوة: علماء ومفكرين كبار أمثال عبد الرحمان بدوي الذي كان إلى جانبي، وسألني: “هل الأستاذ يعرف الفارسية؟” فلما قلت له: “لا”.. لم يصدق، لكنه أردف بإيماءة إعجاب وتقدير، وهو يقول: “كيف يجيب بكل هذه البلاغة وهذا الوضوح على سؤال لم يفهم لغته؟” إنها إحدى إشراقاته رحمه الله.
كنتم إلى جانب المرحوم علال الفاسي برومانيا، حين لفظ أنفاسه الأخيرة، إحكوا لنا التفاصيل الأخيرة للراحل؟
بعد محاضرته التي كانت بشيراز، التي سبق أن أشرت إليها، انتقل إلى الكويت، حيث سفيرنا السي أحمد بلمليح رحمه الله، هذه الجولة التي ستقودنا إلى بوخاريست، جاءت بعد أن نبا إلى علم سيدي علال أن الإسبان يهيئون أرضية لإعطاء “استقلال” داخلي في الصحراء في سيناريو محبوك ضد الوحدة الترابية، وخاطب رحمه الله جلالة الملك في هذا الموضوع قبل أن يسافر، وعقد ندوة صحافية حيث ناشد الدول العربية لمساندة المغرب في استكمال تحرير الأجزاء الجنوبية للوطن. سافرنا معا من شيراز إلى بوخاريست، حيث وجدنا عبد الحفيظ القادري في انتظارنا لأنه جاء من الرباط، كان لنا كوفد موعد مع الرئيس الروماني الأسبق تشاوسيسكو في السادسة مساء، في الرابعة جاء وفد فلسطيني إلى مقر إقامتنا، وفي مقدمته هاني الحسن، وعقد أعضاؤه جلسة عمل مع سيدي علال، وطلبوا منه أن يتدخل لدى تشاوسيسكو الذي علموا بمقابلته له، من أجل فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في بوخاريست…
بعدها أخذنا نتجول في حديقة أنا وسيدي حفيظ صحبة علال الفاسي في انتظار السيارة التي ستُقِلّنا عند تشاوسيسكو، فأخذ رحمه الله يتكلم بصوت مرتفع، ويقول لنا: هذه هي الوصايا التي أتركها لكم في حزب الاستقلال، مباشرة حين عودتنا إلى الرباط، سنقترب من القصر، لم يعد ممكنا أن نترك الملك وحده، لأن المحيطين به يفسدون الحكم بالبلاد، ونحن إذا استطعنا أن ننقص حتى ولو 10 في المائة أو 20 في المائة من الفساد.. فذلك سيكون لمصلحة المغرب”، لأن الرشوة كانت ضاربة الأطناب في دواليب الدولة، وزراء يحاكمون، انقلابات متتالية للجيش.. وأضاف “هادشي حدث بسبب أننا أيضا ابتعدنا عن الملك، وخلينا كمشة من الفاسدين تحيط به، لذلك أوصيكم دوماً بالبقاء إلى جانب الملك.. والوصية الثانية هي العمل الوطني التنسيقي مع الإخوان الذين انفصلوا عنا، بهذه الوحدة سنحمي الملكية ونبني مستقبل مغرب ديمقراطي”.
جاءت السيارة التي ستقلنا إلى المقر الرئاسي.. رحَّب بنا تشاوسيسكو، وأثنى علال الفاسي على الحسن الثاني كعادته، وهذه دائما كانت ميزة سيدي علال ما أن يكون خارج المغرب حتى ينسى الخلافات الداخلية ويتكلم عن الملك والمغرب بشكل إيجابي جداً، لأنه يمثل وجه المغرب هناك.. والتمس منه منذ البداية السماح للإخوة الفلسطينيين بفتح مقر لهم ببوخاريست، فأعطى تشاوسيسكو الأمر ساعتها للقيام بذلك اليوم قبل الغد، ثم بعدها بدأ يتحدث عن الأراضي المغتصبة بالصحراء وعن المخطط الإسباني.. ثم وقف على حين غرة.. وبدأ يصرخ: “الهواء، الهواء.. ما كاينش الهوا”، مع العلم أننا كنا في قاعة كبيرة جداً، فقصد رحمه الله إحدى النوافذ وفتحها بقوة، كان يحس بضغط كبير في التنفس.. وقف تشاوسيسكو وأنا وسيدي حفيظ الذي أمسك بسيدي علال، ودار فِيَّا أنا، وقال لي: أتمم ما بدأته مع تشاوسيسكو، أنت على دراية بالملف، أحطه علماً بكل التفاصيل لتساند رومانيا قضيتنا العادلة”، أتكأ على سيدي حفيظ القادري ورفع سبابته وأخذ يشهِّد، وبعد أن حمل إلى المستشفى العسكري حيث أُجريت له عملية على القلب، ظللنا ننتظر في قاعة المستشفى، ثم خرج علينا من كان اليد اليمنى لتشاوسيسكو، وقال لنا كلمة واحدة: “إنها صاعقة”.. لقد مات رحمه الله.
باعتبار خبرتكم الكبيرة في ملف الصحراء، لماذا وصلنا إلى كل هذه التعقيدات اليوم، أين أخطأنا في تدبير الملف، ما هي الفرص التي ضيَّعناها؟
ليست هذه تعقيدات، كل ما في الأمر أن المغرب تساهل أكثر مما ينبغي في قضية الصحراء.. الحسن الثاني رحمه الله كان دائما يرى أن مشكل الصحراء لا يجب أن يؤدي إلى أي قطيعة مع الإخوة في الجزائر، وأن الأمور يجب أن تسير بالتي هي أحسن، يجب أن تتذكروا أنه بعد قيام المغرب بالمسيرة الخضراء، واندلاع المشكل في المحافل الدولية، “كانت حالتنا في العالم، لا نحسد عليها”، فالجزائر جمهورية وهي رمز للمقاومة والتقدمية والثورة والتحرير، باعتبارها بلد المليون شهيد، بالإضافة إلى إغراءات النموذج الاشتراكي، والملكية رجعية ومتخلفة، ونحن كنا في صف معين.. إلى غير ذلك مما كان زمن الحرب الباردة.. ولكن جلالة الملك كان مصراً على الحفاظ على الصحراء، لكن في ظل