استغلال قاصرات فقيرات في ورشات صناعة الزرابي

82407

داخل قبو أشبه بسجن لا تتعدى مساحته الإجمالية 30 مترا مربعا، أسفل بناية من ثلاثة طوابق بحي بندباب الهامشي بمدينة فاس، حاطت خمس فتيات صغيرات لا تتجاوز الكبيرات منهن 16 سنة، حول المنساج، حيث انخرطن إلى جانب ثلاث نساء في عمل شاق وميكانيكي، يتمثل في نسج زربية ضخمة مزركشة. بدت أنامل هؤلاء الفتيات الصغيرات وهي تغازل بدقة متناهية حركة المنساج وكأنها إبر تائهة في كومة من القش، فخيوط الصوف التي حاصرتهن من كل جانب، حولتهن إلى كائنات مكبلة داخل محل معزول أشبه إلى زنزانة، منه إلى معمل لصناعة الزرابي التقليدية..
هؤلاء الطفلات اللواتي لا حول لهن ولا وقوة، بدل أن يكون مكانهن الحقيقي في هذه المرحلة الحساسة من أعمارهن، هو الفصل الدراسي وتكون المعلمة هي التي تشرف على إكسابهن العلم والمعرفة، وجدن أنفسهن فجأة خاضعات لسطوة المشغلة، بعد أن تم الدفع بهن إلى أتون العمل وهن مرغمات على مساعدة أسرهن على تحمل قسوة المعيش اليومي.

ظروف استغلال
لا يخلو أي محل لصناعة الزرابي بفاس من عينات لهؤلاء الفتيات المتعلمات، فهن يؤثثن هذه المحلات كما تؤثثها المواد الأولية والمناسج، لذلك ما إن تلقي نظرة خاطفة على واحد من هذه المحلات التي تناسلت في مختلف الأحياء الشعبية، بدون أي تصريح ولا اعتبار لشروط العمل والكرامة الإنسانية، حتى تنجلي صور مأساوية من استغلال براءة الطفولة، تحت ذريعة تعليم هؤلاء الصغيرات أصول الحرفة منذ الصغر، وحاجة أسرهن الفقيرة إلى عائدات عملهن.
«راه بناتي هما لي خدامين عليَّ، إلى خطاوني راه ما عندنا باش نعيشوا»، يقول أحمد، رجل في الأربعينات من عمره، عاطل عن العمل، وهو يحاول تبرير تشغيل اثنتين من بناته القاصرات داخل معمل لصناعة الزرابي بحي سيدي بوجيدة… فمعيل هذه الأسرة الذي عجز عن تدبير مورد آخر للرزق، استعان بكريمة ونجاة من أجل دفعهما للعمل مقابل أجر لا يتعدى 150 درهما لكل منهما في الأسبوع الواحد، وهو المبلغ الذي يكفل للأسرة منذ نحو سنتين موردا للعيش الذي يحفظ كرامتهما ويجنبها ذل السؤال.

طفولة مستغلَّة

بصرف النظر عن تبرير دوافع زج الفتيات الصغيرات مبكرا في سوق العمل، بداعي الفقر والرغبة في كسب أصول الحرفة، فإن استغلالهن اليومي بأجور زهيدة ولساعات طويلة داخل وأقبية ومحلات خلفية متوارية عن الأنظار، يبقى أمرا واقعا، حيث الافتقاد لأبسط شروط السلامة والحماية. «أشتغل رفقة أربع فتيات أخريات، بأجرة لا تتعدى 200 درهم في الأسبوع، من السابعة صباحا وإلى السادسة مساءً… والدي هو الذي أرغمني على العمل بعد أن انقطعت عن الدراسة في السنة السادسة ابتدائي. لا يمكن لي ولا لباقي المتعلمات معي أن نمزح داخل المحل أو نتهاون في عملنا الشاق، وإلا كان مصيرنا الطرد أو العقوبة، مادام أن هناك فتيات أخريات في سننا يبحثن عن هذا العمل ولم يجدنه»، تقول (هند، ص) فتاة تبلغ من العمر 16 سنة، التي تشتغل منذ ثلاث سنوات بمحل في حي بندباب..
داخل هذا المحل الذي يعود إحداثه إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، تشرف سيدة على سلسلة من عمليات إنتاج الزرابي بكل حزم وصرامة، لذلك كان من الصعب إقناعها بولوجه من أجل تفقد ظروف العمل به، ففي نظرها هذا سر من أسرار المهنة، ولا يمكن للغرباء أن يقتحموا محلها، حتى رجال السلطة وممثلو مندوبية الصناعة التقليدية لا تسمح لهم بالدخول.
تشغل هذه السيدة 12 طفلة وامرأة بأجور متفاوتة، وتعتبر أن تشغيل الطفلات ليس أمرا يرتبط بها، بل برغبتهن ورغبة أسرهن… «راهم هم اللي تيبغيوا يخدموا بناتهم عندنا، ما شي حنا لي تنقلبوا عليهم، راه فيهم غير المشاكل، راه إلى واقعت شي تيفتيشية راه حنا لي مسؤولين».

معطيات صادمة

أقرت دراسة قام بها في وقت سابق صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة «اليونسيف»، في إطار برنامج «حماية الطفولة» الذي وقع عليه المغرب، أن عدد الفتيات اللواتي يعملن في قطاع صناعة السجاد والنسيج بفاس يصل إلى حوالي 1200، طفلة، أي 64 في المائة من إجمالي العاملين في القطاع، الذي بنظر الدراسة يستأثر بتشغيل الأطفال أكثر من غيره من القطاعات. وتتراوح أعمار ثلث هؤلاء بين العاشرة والخامسة عشر سنة.
وأكدت الدراسة التي شملت 72 وحدة لإنتاج السجاد بفاس، أن 230 طفلة تقل أعمارهن عن عشر سنوات من أصل 1200 طفلة تعمل في القطاع في مختلف وحداته، وتعرض 63 في المائة من المستهدفات إلى عنف مادي ولفظي. وعزت الدراسة تشغيل الفتيات في هذه السن المبكرة إلى استفحال عوامل الفقر وعدم التمدرس أو الانقطاع عن الدراسة.
من جهته، لا ينكر صاحب ورشة مقننة لصناعة وتسويق الزربية الفاسية بحي الطالعة بالمدينة العتيقة، «كون هزالة المردودية والدخل ساهما في تخلي العشرات من الفتيات عن ورشته، في مقابل تفضيلهن العمل في ورشات غير قانونية، فيما فضلت أخريات البحث عن العمل في معامل النسيج بالحي الصناعي، حيث هناك إمكانية أفضل للحصول على دخل أفضل وفرص أحسن للاستمتاع بالحرية من ظروف الاستغلال والمراقبة الصارمة والأجواء المنغلقة داخل المحلات المخصصة لنسج الزربية».
ويؤكد أن هذا «الاستغلال البشع للقاصرات يتم في غياب أدنى مراقبة أواهتمام من قبل السلطات والوزارة الوصية».

تدهور القطاع

يتحدث بعض المهنيين عن إغلاق ما ينيف على 70 ورشة حرفية لصناعة الزرابي والسجاد بالمدينة خلال السنوات الأخيرة، نتيجة تناسل عدة مشاكل تنظيمية وهيكلية، منها ضعف جودة المنتوج مقارنة مع دولة منافسة، وعدم احترام ظروف العمل والإنتاج، ومنها تشغيل قاصرين وقاصرات بأجور زهيدة، واستعمال مواد أولية رخيصة.
ويعتبر تقلص حجم الصادرات سنة بعد أخرى وتضرر الزبناء المتعاملين مع المنتجين والمصدرين المغاربة المهددين في رؤوس أموالهم، من أهم معيقات النهوض بالقطاع، إضافة إلى «فقدان الثقة في الشركاء وتراجع نسبة الاستثمار في القطاع واندحار الطاقة الإنتاجية للمعامل التي اضطر بعض مالكيها أمام هذا الواقع إلى إغلاق العديد منها بعد سنوات عديدة من الأزمة»، يقول مسؤول بالمركز الجهوي للاستثمار بفاس.
ويؤكد حرفيو القطاع الذين تنتشر محلاتهم بالمدينة العتيقة وأحياء بن دباب والمرينيين وزواغة وعوينات الحجاج وسيدي إبراهيم وسيدي بوجيدة، أن أثمنة الزرابي «عادية وغير غالية كما يعتقد البعض، بالرغم من المجهود الكبير والوقت الطويل الذي يتطلبه الإنتاج». وبرأي أحد الحرفيين، فإن ما يسمى بالغلاء «ليس له أي تأثير على السوق، والحقيقة أن أثمنتها الحالية، سواء الموجهة منها للاستهلاك الداخلي أو الخارجي، لا توازي أحيانا حتى تكاليف إنجازها».
ويؤكد أن 50 في المائة من ثمن بيع الزربية الذي قد يفوق المليون سنتيم، تبتلعها المواد الأولية والبقية تقتسم بين أتعاب التجار والحرفيات اللواتي تقضين أحيانا أكثر من أربعة أشهر من أجل صناعة زربية واحدة من فئة 6 أمتار، ويبعنها في الأخير بثمن «أقل بكثير من ذاك الذي يشتريها به الزبون المغربي أو الأجنبي».
هذا هو قطاع الزرابي بفاس، قطاع يشغل فئة كبيرة من القاصرات، اللواتي يقبلن على الحرفة بدافع الفقر وتعلم الحرفة. لكن هؤلاء فتيات يتعرضن في الواقع للاستغلال والجهل بحقوقهن، ولا يعلمن شيئا عن مشروع قانون رقم 12 . 19 المتعلق بتشغيل القاصرات، الذي صادقت عليه الحكومة في اجتماع لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب يوم الإثنين الماضي.

 

محمد الزوهري

أترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *