الصادق العثماني *
برزت ظواهر غريبة عجيبة على سطح مجتمعاتنا العربية واﻹسلامية، وخاصة وسط “المتدينين” ومن بينها الجدال العقيم في شؤون الدين، ليس من أجل ابراز حقيقة الإسلام والتمسك بتعاليمه وأخلاقه وآدابه وتوجيهاته ومقاصده اﻹنسانية النبيلة؛ وإنما من أجل إبراز عضلات المعرفة والعلم والفهم في حلبة الصراع تجاه الخصم؛ بغية إفحامه وإسكاته وتسفيه أفكاره؛ لهذا إمامنا مالك رحمه الله تعالى كان يقول: “ليس العلم كثرة الرواية ولكن العلم الخشية..” . وفي هذا السياق دار حوار بيني وبين صديقي “السلفي” عبر الفضاء الأزرق؛ حيث طلب مني صاحبي وهو يحاوني أن أقتدي به في منهجه السلفي؛ ﻷن المنهج السلفي حسب رأيه هو اﻹسلام بعينه، وينبغي على جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتبعوا منهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين؛ قلت له سيدي ربما اختلط عليك اﻷمر بين “المنهاج” و “المنهج” فإن كنت تقصد “المنهاج” الذي هو القرآن والدين الإسلامي المحمدي الحق، فهذا صحيح؛ ﻷن منزله وواضعه هو الله جل جلاله، يقول تعالى “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”؛ أي جعلنا للديانات الثلاث أو الملل الثلاث: اليهود والنصارى والمسلمين، شريعة تحكمهم ويحكمونها في شؤون دينهم ودنياهم . بالنسبة للمسلمين عن طريق القرآن، واليهود عن طريق التوراة، والإنجيل بالنسبة للنصارى، أما المنهج السلفي الذي تدعونني إليه مشكورا سيدي المقصود به عند علماء الإسلام الكبار، هي المدارس الفقهية؛ بحيث لم يكن للسلف الصالح منهج واحد ووحيد فقط كما تزعم؛ بل كانوا على مناهج متعددة ومدارس فقهية مختلفة، ابتداءً من عصر الصحابة رضي الله عنهم، فقد ظهر منهجان مختلفان أو مدرستين مختلفتين إن صح التعبير ، مدرسة اﻷثر أي مدرسة الحديث التي كان يُمثلها من الصحابة كل من : عبد الله بن عباس وعبد الله بن عـمر وعـائشة رضى الله عنهم أجمعين وغيرهم من فقهاء الصحابة الذين أقاموا بمكة والمدينة. ثم تبعهم على نفس النهج والمنهج (منهج النص والأثر) كل من: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعمرو بن حزم، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، وعطاء بن أبى رباح، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، ومسلم بن خالد الزنجى، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل..أما مدرسة الرأى والقياس فقد مثلها من الصحابة: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود الذي كان شديد التأثر بمنهجه فى الأخذ بالرأى، والبحث عن علل الأحكام، وأول من وضع قواعد هذه المدرسة في العراق هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذى أقام بالعراق، كما كان لأصحاب اﻹمام على بن أبى طالب رضي الله عنهم أجمعين دورٌ كبيرٌ فى مدرسة الرأى، وكان من أبرز المدارس الفقهية في هذه الفترة بالضبط مذهب إبن مسعود، ومذهب إبن عمر، ومذهب عائشة رضي الله عنها، وهي عبارة عن فتاواهم فيما جد من حوادث.
وقد أضاف فقهاء التابعين من بعد الصحابة الكرام اجتهاداتهم الخاصة أيضاً، وظهر فيهم فقهاء أعلام من منتصف القرن الأول إلى مطلع القرن الثاني للهجرة، لعل أشهرهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، ولم يكد يمر القرن الهجري الثاني حتى شهدت الساحة الإسلامية بروز عدد ضخم من العلماء المتخصصين في الفقه، لهم مناهج واضحة، وتلاميذ مجدون، وقد جمعت آراء معظمهم ودونت ونقحت. وكان من أبرزهم الأئمة الخمسة: إمام آل البيت جعفر الصادق رضي الله عنه… (ولد يوم 17 ربيع الأول 80 هـ في المدينة المنورة وتوفي فيها في مساء 25 شوال من سنة 148 هـ) والإمام أبو حنيفة النعمان ( 80 هـ ـ150هـ) وكان إمام مدرسة الرأي في العراق. والإمام مالك بن أنس( 93-179هـ) والإمام محمد بن إدريس الشافعي، الذي عاش رحمه الله ما بين(150ـ204هـ) .والإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الذي عاش رحمه الله ما بين (164ـ241هـ ) ولقد قيض الله لهذه الأمة الإمام الشافعي؛ بحيث تنبه لخطورة الجمود والتقليد وعدم فهم مقاصد النصوص القرآنية وغايات وأهداف السنة النبوية الشريفة ، فألف الرسالة فجمع ما كان قد تفرق، ونسق ما كان قد تشتت واختلط، فلذلك اعتبره الأئمة–من بعده- مجدد القرن الثاني.
وشكلت رسالة الشافعي المدونة التأسيسية للاجتهاد الاستنباطي، فصححت قواعد الفهم، وسارت على طريقة البيان الجامع بين مقتضيات الألفاظ العربية والمعاني القياسية. وجاء من بعد الشافعي أفذاذ من العلماء ساروا على النهج نفسه، وربطوا بين الألفاظ والمصالح، وجمعوا بين الاستنباط والتنزيل –وإن كان للاستنباط غلبة على التنزيل- وسلكوا طريق التوفيق، فكان على رأس هؤلاء العلماء الأجلاء أبو المعالي الجويني (ت478هـ) وأبو حامد الغزالي (ت505هـ)، وغيرهما ممن تبعوا أعمال الشافعي بالشرح والتوضيح والتقعيد والتفريع، فألفوا النفائس من الكتب كالبرهان والمستصقى والغياثي والإحياء … لكن بالرغم من هذه الجهود العلمية المضنية من أجل إعادة إحياء علوم الدين ومقاصده، لم تكن لتستمر بفعل آثار الانكسار التاريخي الذي أصاب في وقت مبكر مؤسسة الخلافة الحامية لبيضة الإسلام، فسرعان ما سادت روح التجزيء والتقليد، فنجد مثلا ساداتنا العلماء ومشايخنا الفضلاء، أفاضوا في الشرح وشرح الشرح والتأليف في النوافل والسنن والمندوبات والمستحبات والمكروهات والمحرمات وفقه الجهاد والحروب..بينما لم نسمع لهم همسا وﻻ مؤلفا واحدا في فقه السلم والسلام والعدل والحرية وحقوق اﻹنسان، وحقوق العمال والسياسة الشرعية، واﻹقتصاد، والعلاقات الدولية والتجارية.. وغير ذلك من جواهر اﻹسلام وروح القرآن الذي كرم اﻹنسان. فكان الطالب المسلم يقضي 40 سنة من عمره في حفظ القرآن الكريم بدون فهم وﻻ تدبر، ثم ألفية إبن مالك، ومختصر الشيخ خليل عن شرح الدردير، وما أود قوله والوصول إليه في هذه الدردشة مع صديقي “السلفي” هو أن كل مسلم يقول لا إله إﻻ الله محمد رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج بيت الله الحرام، ويؤمن بأركان اﻹيمان واﻹسلام، فهو سلفي وعلى منهج السلف الصالح، أما من يحتكر السلفية ويجعلها هي اﻹسلام عينه، أو يحصرها في جماعة معينة، أو شخص معين، فهذا في الحقيقة تزوير وتحريف لدين الإسلام وخطأ كبير وجهل عظيم برسالة رب العالمين الذي أتت رحمة للعالمين .
* داعية إسلامي