“التيندي” و “إيمزاد” موسيقى لعازفات قهرن الحرب و أنخن العير

chhm

أحمد بوداود – الجزائر 

فلسفة أخرى للحياة ،عالم سرمدي ساحر لا متناه… غموض و ألغاز و قصص من الماضي السحيق… جمال متوحش و مخملي في آن واحد…, هذه بعض العبارات التي قد يستنجد بها السائح الأجنبي في محاولة يائسة لا تستوفي وصف شعوره و انطباعه تجاه واحدة من أشهر و أجمل الصحاري في العالم, صحراء ”  الآهاغار و التاسيلي ناجار” بالجنوب الجزائري
هي إحدى أكبر الهضاب الصخرية البركانية الشاهقة في العالم، تقع على علو نحو ألف متر عن سطح البحر, تتشكل من سلاسل جبلية بركانية ذات أشكال متنوعة جميلة و إحدى دلالات إبداع المولى سباحنه و تعالى في الطبيعة ، أشكال أثرت في نحتها على هذا النحو المثير عوامل الطبيعةعلى مدار ملايين السنين منذ أيام الزواحف العملاقة، لذلك صنفت منظمة اليونسكو عام 1982 هذه الصحراء الجزائرية كإرث إنساني عالمي, بل و أبعد من ذلك, تم تصنيف المنطقة كأكبر متحف طبيعي مفتوح على الهواء الطلق في العالم, لاحتوائه على نحو ثلاثين ألف نحت و رسم حجري لإنسان ما قبل التاريخ, و بقايا أشجار حجرية عملاقة كانت الديناصورات تتجول تحت ظلالها ذات مرة, و كل ذلك ممتد على مساحة تقدر بثمانين ألف كيلومتر مربع.
إن الحديث عن السحر و الشهرة و الإثارة التي يصنعها هذا المكان الفريد من نوعه قد يدفع البعض للاعتقاد أن الأمر يتوقف عند جماله الطبيعي فقط, بل إنه يتعدى مجرد ديكور تاريخي قديم من دون حياة, لأن هذه المنطقة تفيض بنبض شعب عاش فيها لقرون طويلة بكل تناغم و انسجام. إنهم الطوارق ،الشعب المتفرد في كل شيء, في لباسه و نمط عيشه و لغته و عاداته و تقاليده و قوانينه و ثقافته, . و لعل من أهم تلك العناصر الثقافية التي صنعت هذه الهالة حول منطقة الهوغار و التاسيلي طيلة هذه العشريات من الزمن, هي الموسيقى التي يشتهر هذا الشعب بها و بسر علاقته معها.
إن الغناء عند التوارق كالأكل والشرب ،لا يستغنون عنه ولا يقلعون عنه، فالتارقي يغني في بيته وفي طريقه لجلب الماء ، ولسقي الحيوانات وفي صحرائه وهو يمتطي جمله ،يتغنى ليطرد الملل والنعاس في ليالي الصيف الرطبة حيث يحلو لهم السير بعد يوم من الحر القائظ، وكما الرجل كذلك المرأة ،ففي جميع المناسبات تغني المرأة في الأفراح بجميع أنواعها وهي تضرب على آلة الايقاع (التيندي) وهي أيضا ترافق صوت الإمزاد الجميل وغناء التوارق حسب ظرف ،إما غناء بالأمجاد والبطولات ،وإما تشبيب بالحبيبة في الطرق الطويلة ،وإما غناء مناسبات يردد أشعارا وضعت قديما في موضوع المناسبة .
وللتوارق مجموعة من الألحان المتعارف عليها يغنيها الأفراد في مناسباتها والتارقي يتخذ من صحرائه تشبيهاته وأوصافهم ولا يبتعد كثيرا عن صحرائه .
 ولعل أهم آلة في بلاد التوارق والتي يشيدون بها بما يشبه التقديس هي “الإمزاد” تعزف عليها المرأة و هي عبارة عن قدح من الخشب يربط على فمه جلد شاة ويخرج من طرفيه عودين يشد بينهم قضيب من شعر الخيل ،كما يثقب الجلد ثقبين أو ثلاثة في الوسط ،ويأخذون عودا على شكل هلال ،ويربطون طرفيه بقضيب من شعر الخيل “شعر الذيل” ويدعكون الشعر ببعضه ويصدر صوتا جميلا يغيرون نبراته بتبديل أصابع اليد اليسرى حيث تكون اليد اليمنى منهمكة بالدعك ،وهذه الآلة أشبه ما تكون
بالربابة العربية أو الكامنجة الأوربية .وتعتبر آلة الإمزاد من أجود الآلات الموسيقية، وهي شديدة التأثير على التوارق ولاسيما الرجال منهم، وتستعمل في الطرب والغناء الذي يؤثر في النفوس والعواطف وينقيها، وهذه الآلة يرافقها في السهرات غناء يطرق بصفة خاصة مواضيع الحب والوحدة والغيب والخوف والحرب ليزيد من شجاعة التارقي ويشحذ همته، كما يجعل النفس تترفع عن كل ما يدنسها كالخيانة والخديعة والنميمة أو الكذب والسرقة وغير ذلك من العيوب والآفات الاجتماعية ،إمزاد وجد أيضا للمحافظة على عذرية العلاقات العاطفية ونقاوتها هو باختصار فلسفة أخرى للإيقاع ويحضر سهراتها الممتعة أكثر الرجال شخصية وفكرا، حتى قيل أن الرجل الذي يستمع إلى إمزاد لن يقرب ما يحط من كرامته أو ينتقص من خلقه ،وقيل << حينما يتكلم الإمزاد يقل الكلام >> ويروى أن تين هينان أم الطوارق و ملكتهم الأولى قالت بأنها صنعت إمزاد من عرف جوادها ومن نبتة الأرض معجزة للرجال ذوي الأناقة والشهامة من أجل ذلك كان للإمزاد مكانة مرموقة حتى أن الشاعرالتارقي يقول:
((اليوم الذي أموت فيه
لا بد أن تدفنوني في قطعة نقية
ناصعة من الكتان
مثل الورقة البيضاء
وصدقوا عني
ثلاث أغنيات من غناء إمزاد
والفاتحة.))
أما احترام الطوارق للإيمزاد ، حسب ما تواترته حكاياتهم أنه كان السبب في كف الحرب بين قبيلتين حيث أن امرأة ضاقت ذرعا بما جلبته عليهم الحرب حتى غدت و صويحباتها خوصا عجافا من كثرت البكاء ،فخرجت و التقطت ما صنعت به أول آلة ، و أخذت تعزف عليها لحنا حزينا غير بعيد عن صوت ضجيج الحرب ، و شيئا فشيئا تراخت السيوف في أيادي المحاربين ، حتى أنزلوها و توجهوا جميعا صوب الصوت مسحورين بعذوبته ، فعقدوا بعدها الصلح و وضعت الحرب أوزارها.
وما هو معروف عن التارقي أنه يعشق الرقص ، فهو يرقص إذا فرح ويرقص إذا غضب ويعالج مرضاه أيضا بالموسيقى والرقص ولكل مناسبة رقصاتها .
فللمريض يرقصون وللعائد من السفر وللمولود وللعرس وللختان يرقصون وللحرب يرقصون وللمطر يرقصون ،فالتارقي ذواق للموسيقى وللفن .
في حفلات الرقص يرقص الجميع وحتى كبار السن تراهم يحركون رؤوسهم وأكتافهم في مجالسهم على أنغام الموسيقى وقرعات الطبل ويصرخون صرخاتهم المميزة ، و هنا يأتي الحديث عن آلة هي الأخرى لا تعزفها إلا المرأة ألا و هي” التيندي”، ويوظف المهراس (التيندي) في الموسيقى إلى جانب استعماله في طحن الحبوب، يوضع على فم المهراس قطعة من الجلد تربط بإحكام بحبل كما يوضع قضيبان من الخشب متوازيان تجلس في كل جهة امرأة لضمان التوازن وهي آلة موسيقية ترافق الغناء الذي يحمل نفس الاسم أي التيندي وترافقه أيضا رقصة الجمال، جيئة و ذهابا حول النسوة، أما حكايته فيعتقد الطوارق أن امرأة أضلت إبلها فكانت تخرج كل يوم عند آخر سويعات المساء فتقرع على مهراسها الذي غطته بالجلد و هكذا ضلت تفعل لخمسة أيام حتى قدمت عليها إبلها ، ذلك أن الإيقاع يوازي حركة أخفاف الإبل الأربعة عند هرولتها و كأنها هي العازفة.
لقد سافر التيندي و الإيمزاد اليوم إلى كل بقاع العالم و عزفا في مهرجانات دولية عدة ، و أبهرا بما حوياه من بساطة و فلسفة جمعت بين الأسطورة و الألم و الألم، ما زالت الثقافة الجزائرية تعتز بهذا الموروث المادي فخصصت لهما مهرجانا سنويا يؤمه آلاف السياح و العاشقين للموسيقى من مختلف أصقاع العالم.
أترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *