حين تنتهي صلاحيات الوزراء في الحكومات المتعاقبة على تدبير شأن المغرب، يميلون إلى العزلة، في ما يشبه «الإضراب الواعي». لكن لا بد من التمييز بين العزلة النكدية والعزلة الإبداعية، حيث عمل كثير من الوزراء على استثمار خروجهم من تشكيلة الحكومة، فشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي تحول إلى زاهد متعبد، والمختار السوسي اشتغل بالكتابة والتأليف، فيما انشغل عبد الله إبراهيم بالدراسات والأبحاث الجامعية، واختار مبارك البكاي جمع أشلاء الجيش الذي ساند فرنسا، وعاد الدكتور الخطيب إلى عيادته، واتجه أهل سوس إلى التجارة بعد الاعتزال السياسي. لكن القاسم المشترك بين الوزراء المفكرين هو العفة والقناعة، إذ تخلى كثير منهم عن الرواتب والمعاشات وظلوا يوثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة.
الآن وقد تجدد الحديث عن رواتب المسؤولين ومعاشاتهم بعد «زوج فرنك» الشهيرة للوزيرة شرفات أفيلال، فقد تحول الأمر إلى حملة وطنية لوقف معاشات الوزراء والبرلمانيين، وتقليص رواتبهم إلى الأدنى. وارتفعت وتيرة الجدل، حين اعتبر قيدوم المحامين عبد الرحمان بنعمرو أن تعويضات التقاعد الخاصة بالوزراء والبرلمانيين لا ترتكز على سند قانوني، لأن منصب الوزير هو مجرد منصب سياسي وليس وظيفة.
الملف التالي يكشف عن الجوانب المضيئة في عتمة ريع المعاشات، ويعيد إلى الأذهان سيرة وزراء تخلوا طوعا عن رواتبهم، أو معاشاتهم، حبا للوطن واستجابة لخصلة القناعة التي ظلت كنزا لا يفنى.
– محمد بلعربي.. رفض المعاش واقتنى أربع بقرات
كان شيخ الإسلام، محمد بلعربي العلوي، زاهدا في حياته على الرغم من ميوله السياسي، وحين حصل على أعلى الشهادات من القرويين، ظل يصر على وضع ما علمه السلف للخلف، مؤمنا بالقيم الإنسانية الأكثر نبلا، بل إنه رفض المعاش الذي خصصته له الحكومة واكتفى بما ينتجه من عرق جبينه، في مجال العلم والمعرفة. ويروي رفاق شيخ الإسلام أن هذا الأخير استغرب لما اقترحوا عليه معاشا بلا عمل، ففي سنة 1962 استقال الشيخ من منصب وزير الدولة وتوجه إلى بيته في درب الميتر ليشرع في حلب أربع بقرات وتربية الدجاج ويعيش ببيع الحليب والبيض، بعدما اشترى 4 بقرات عاش من ثمن حليبها، كما رفض التحول من مستهلك إلى «كساب»، بعدما نصحه هواة الاستثمار بتوسيع تجارة الأبقار.
رغم أنه عاش في مناصب سامية إلا أنه كان بسيطا في حياته اليومية، فقد عين في سلك القضاء بمدينة فاس، ثم شغل منصب وزير مستشار في مجلس التاج مع تعيين أول حكومة مغربية بعد الاستقلال. عايش أربعة سلاطين علويين وهم: مولاي عبد الحفيظ العلوي ومولاي يوسف العلوي، ومحمد الخامس، ثم الحسن الثاني، وعلى امتداد قربه من الملوك ظل يرفض الهبات وكل أشكال الريع، انسجاما مع مبادئه. وحين نفي محمد الخامس من طرف المستعمر، رفض الشيخ محمد بلعربي دعوة الإقامة العامة بتبني نظام محمد بن عرفة، وأفتى بقتال المستعمر فكان مصيره النفي إلى تيزنيت، ليعيش حياة الزهد مرة أخرى. ويحكى أن البوليس الاستعماري جاء لاعتقاله سنة 1954 ففاجأهم بظاهرة غريبة، إذ عمد إلى حمل حقيبة بها حاجياته فيما كان يحمل في اليد الأخرى ثوبا أبيض اللون، فسأله المراقب الفرنسي عن سر القماش الأبيض، فكان رده: «إنه كفني»، وهناك قال مقولته المشهورة: «إن السجن بالنسبة إلي فرصة للتفكير، والنفي فسحة للسياحة والموت فرصة للاستشهاد». ويحكى أنه شد رحاله للالتحاق بالثائر موحا وحمو الزياني بعدما باع متاع بيته، مما يؤكد اصطفافه إلى جانب البسطاء.
وقال عنه تلميذه محمد المختار السوسي إنه لم ينس أبدا نصيحة أستاذه سيدي محمد بن العربي العلوي الفيلالي، حين قال له وهو في حاضرة فاس: «إنني كنت وفدت على فاس في سنك، فاستفد من تجربتي، أوصيك ألا تتسلف أبدا من فاسي، ولا تتركه يدرك أنك محتاج، فإن ذلك يسقطك من عينه».
ومن شدة تقشفه أنه أوصى بالبساطة حتى في قبره بمسقط رأسه مدغرة في الرشيدية، وهو عبارة عن أكوام من الأحجار لأنه أوصى رحمه الله بعدم البناء عليه أو زخرفته.
– البكاي.. عاش تقاعده بمعاش الجيش الفرنسي
رغم انخراط مبارك البكاي في الجيش الفرنسي وبلوغه مرتبة عقيد، إلا أن هذه الصفة لم تمنعه من خدمة القضية الوطنية، وسجل له التاريخ موقفه بعد نفي محمد الخامس، إذ ضحى الرجل بمنصبه كباشا لمدينة صفرو رافضا الانضمام إلى قائمة رجال السلطة المتآمرين على العرش العازفين على مقام و«نوتة» فرنسا.
خاض أعنف حرب ضد النازيين عند احتلالهم لفرنسا، وقاومهم أعنف مقاومة ومعه محاربون مغاربة، وهو ما كلفه بتر رجله اليمنى، مما بوأه مكانة عالية لدى الفرنسيين، وحين عاد السلطان محمد بن يوسف من منفاه اختاره رئيسا لأول حكومة وطنية بعد الاستقلال، بمباركة من المستعمر الفرنسي.
أوضح ابنه، نصر الدين، أن والده عاش ميسور الحال، بسبب الثروة التي ورثها عن الأجداد، «والدي رحمه الله لم يكن يملك سوى راتبه الشهري، وحين خلد إلى الراحة بعد التقاعد ظل يتوصل بمعاشه من الجيش الفرنسي، وليس من الحكومة المغربية»، وهذا مع العلم أن مبلغ المعاش يقل بكثير عن راتب الباشا.
قبل أن يصبح مبارك على رأس أول حكومة مغربية في عهد الاستقلال، أسدى الرجل من موقعه كباشا لصفرو، أعمالا جليلة ما زالت الألسنة ترددها وتثني عليه من أجلها، خاصة في مجال التكافل الاجتماعي، إذ ظل يخصص الجزء الأكبر من راتبه لإعالة المعوزين. ومن المفارقات العجيبة في مسار البكاي، تعيينه لرجل بركاني في ديوانه كرئيس حكومة، ويتعلق الأمر بعبد القادر بن صالح الشهير بفرانكو، الذي أصبح إمبراطور صناعة وتوزيع المياه المعدنية والمشروبات الغازية والذي ظل يعتبر سنوات الستينات والسبعينات كواحد من أكبر أغنياء المغرب، قبل أن يورث الجاه لابنته مريم بن صالح.
– المختار السوسي.. باع بيته ومكتبته وخصص راتبه للتأليف
وصف رضى الله عبد الوافي، ابن العلامة والأديب والوزير محمد المختار السوسي، والدته صفية بنت إبراهيم التازروالتي، في كتاب تحت عنوان «أم الطلبة»، بالشريفة لالة صفية التي وهبت حياتها لخدمة طلبة العلم، إذ كانت تعتني، في مدرسة الرميلة المراكشية «بإكرام طلبتها وضيوف زوجها العلماء والأدباء وغيرهم من الفضلاء».
وأضاف: «أما بيتنا فكان بمثابة زاوية يقصدها طلاب العلم الذين كانوا يمكثون معنا وكأنهم أفراد من الأسرة، وكانت والدتي صفية بنت إبراهيم ترعاهم وتخدمهم طيلة فترة تحصيلهم العلمي ومقامهم بمدرسة بزاوية والده، الذي كان يلح على أدق التفاصيل وأبسطها، وفيها إشارة حتى إلى مصاريف البيت واحتياجاتنا اليومية من مأكل ومشرب، وأذكر أنه ختم رسالته بالقول: «وهكذا يا عبد السلام تضبط حسابك» في إشارة إلى ميزانية البيت».
لم يكن المختار مهتما بمنصبه الوزاري كوزير للتاج، بل كان همه الأول هو التأليف، بعد أن وجد في كتابه «المعسول» أجوبة للعديد من الأسئلة العالقة، لاسيما وأن كتابته عبرت مراحل عديدة من المعتقل إلى الاستوزار.
وعلى الرغم من بلوغه الوزارة، إلا أنه ظل يرصد راتبه للتأليف. يقول ابنه رضى: «أمضى والدنا ما يقرب من الأربع سنين الأخيرة من حياته في طبع مؤلفاته، حيث طبع 35 جزءا منها، ولكي يتمكن من أداء نفقات الطبع، اضطر إلى بيع خزانة كتبه إلى جمعية علماء سوس، وكذلك بيع منزل له بالرباط، ومستعينا أيضا بما يخصصه لذلك من مرتبه الذي كان يتقاضاه عن منصبه في الوزارة وفي القضاء».
عبد الله إبراهيم.. الوزير الذي لا يملك سيارة ولا معاشا
أغلب المراكشيين لا يصدقون أن عبد الله إبراهيم، المفكر السياسي والوزير الأول في حكومة 1958-1960، ابن منطقة تامصلوحت الذي ولد في سنة 1918 في قبيلة الكيش، بحوز مراكش الجنوبي، وترعرع وسط عائلة بسيطة، هو نفس المربي الفاضل الذي تعلمت على يديه أجيال حين كان معلما، في الثلاثينات من القرن الماضي بإحدى المدارس الحرة في مراكش، وانتهى به المطاف رجل القرار قبل أن ينهي مساره في غنى عن معاش الحكومة.
كان الفتى المراكشي ملما منذ طفولته بالقرآن الكريم وأصول الفقه، حيث قضى فترة في المسيد، قبل أن يلتحق بالمدرسة الابتدائية الحرة التي أنشأها الباشا الكلاوي سنة 1922، وفي الثلاثينات عين معلما بإحدى المدارس في مراكش.
بموازاة مع مهمته كمدرس ابتدائي، تابع عبد الله إبراهيم دراسته العليا، فأصبح من علماء معهد ابن يوسف بمراكش، حيث نال الشهادة العالمية سنة 1945 تحت إشراف الشيخ محمد بلعربي العلوي، ثم التحق بفرنسا وتخرج في جامعة السوربون، ومعهد الدراسات الشرقية بباريس، ولمع نجمه في الصحافة المشرقية والمغربية، وكان أحد صناع الكتلة الوطنية وأحد مهندسي ميلادها، وتحول في ظرف قياسي إلى أحد أبرز قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، المنشق عن حزب الاستقلال.
حين أسند إليه الملك الراحل محمد الخامس رئاسة الحكومة الوطنية في أواخر سنة 1958، وكان حينها ضمن تشكيلة حزب الاستقلال، قدم مشروعا إصلاحيا أساسه التعليم، فكان أول من نادى بإلزامية التعليم ودعا إلى تعميمه في القرى والمداشر.
يقول ابنه، طارق، إن والده كان بسيطا في حياته لا يتعامل مع الآخر كرجل سلطة، «نعم أتذكر هذا الأمر جيدا. والحقيقة أننا تساءلنا وقتها عن ضرورة طرح ذلك السؤال، لأن والدي كان دائما يتصرف كأي مواطن عادي. فقد كان يركب القطار ويتنزه في الحدائق مثل كل المواطنين. وأن تكون وزيرا أو ما شابه ذلك لا يعني ألا تركب القطار أو أنك لا تتصرف مثل باقي المواطنين أو أن تحظى بامتياز ما، وهذه هي المبادئ والقيم التي كان والدي يناضل من أجلها. وحتى أثناء أسفارنا، سواء إلى مراكش، أو غيرها من المدن كان أبي يرتاد أماكن عادية كغيره من المواطنين، يقف مع المسافرين في محطة القطار بالرباط منتظرا مع زوجته ويسير في الشارع على قدميه بدون بهرجة، ولا يملك سيارة يتنقل بها، ويزهد في ورق الجرائد مبتعدا عن الأضواء، ولا يشتكي من التهميش الذي طاله».
– الخطيب.. خصص معاشه لعلاج المرضى المعوزين
يكشف شريط الفيديو المعروض على موقع «يوتوب»، الحامل لعنوان «تكريم للمغرب من طرف مانديلا»، عن سخاء الرجل ودوره في دعم ثوار بريتوريا، إذ يرصد تفاصيل حفل أقيم في عاصمة جنوب إفريقيا يوم 27 أبريل 1995، حين احتفلت بعلمها الوطني الجديد. وقف نيلسون مانديلا يخطب أمام حشد جماهيري كبير وهو ينوه بجهود المغرب في تحرر بلاده، ويروي للحاضرين قصة اليد البيضاء للمغاربة، بالرغم من بعد المسافات بين البلدين.
يقول نيلسون في خطبته التاريخية، التي يحملها الشريط: «في سنة 1962 التقيت شخصية فذة في المغرب، وطلبت منه مساعدة الحركة التحررية في جنوب إفريقيا، بالسلاح والمال، فلم يتردد في تحديد موعد في اليوم الموالي، بل كان ينتظرني قبل الموعد المتفق عليه، وقال لي إذا حددنا موعدا في التاسعة صباحا فستجدني أنتظرك في الثامنة، سلمني 5 آلاف راند، وكانت قيمة الراند الواحد حينها تفوق قيمته الحالية، لقد كان يساوي مليون راند، كما اقترح علي تحويل السلاح إلى عاصمة تنزانيا دار السلام فوافقت، لتصلني دفعة من الأسلحة في التاريخ المتفق عليه. هذا الرجل الذي أدعوكم للوقوف تحية احترام له، هو عبد الكريم الخطيب».
في تلك الحقبة التاريخية التي تحدث عنها مانديلا في خطبته، كان الدكتور الخطيب وزيرا في الحكومة المغربية الثانية مكلفا بدعم الحركات التحررية في إفريقيا، وهو المنصب الذي لم يعد له وجود في ما بعد.
خلال فترة مقاومة الاستعمار، ظلت عيادة عبد الكريم الخطيب في درب السلطان بالدار البيضاء، مفتوحة بالمجان لفائدة المقاومين والمعوزين، وشكل لوحده مؤسسة لرعاية أسر الشهداء، في زمن كانت أسرة الخطيب تضم وزيرين، وهما: عبد الرحمن الخطيب الذي لم يعمر طويلا في وزارة الداخلية ولم يقترن اسمه بها كأسماء أخرى، إلا أنه كان وزيرا للداخلية في فترة الستينات ووزيرا للشبيبة والرياضة، وعبد الكريم الخطيب الذي تقلب في مناصب حكومية كبيرة كوزير للصحة وللشؤون الإفريقية ورئيس للبرلمان، ومؤسس حزبين سياسيين، وأكثر من ذلك قربه من القصر، حيث كانت والدة الوزيرين مريم الكباص صديقة للالة عبلة، والدة الملك الحسن الثاني، حيث كانت تدخل القصر دون تأشيرة.
رحل الخطيب إلى دار البقاء وفي قلبه غصة التعرض القضائي على قطعة أرضية وهبها لفائدة شريكة حياته، مفتاحة بوجبار، من طرف شركائه التجاريين.
– بوعبيد.. وزير الاقتصاد الذي كان يتنقل بدراجته
ولد عبد الرحيم بوعبيد بسلا، يوم 23 مارس 1922 بعد تسعة أشهر من معركة أنوال الشهيرة، أي أثناء حرب الريف، لكن هناك اختلاف بين المؤرخين حول التاريخ الحقيقي لميلاد عبد الرحيم بوعبيد، إذ تقول الروايات التاريخية إنه اضطر لإضافة سنتين إلى سنه الحقيقية كي يتمكن من الاشتغال في العطلة الصيفية، وحسب رواية الاتحادي عبد اللطيف جبرو، فإن «الوثائق الخاصة بعبد الرحيم بوعبيد تؤكد أنه ولد يوم 23 مارس 1920، ومع ذلك فالحقيقة أن سنة ميلاده كانت عام 1922، ويعود سبب إضافة عامين إلى سنه، كون الفقيد عبد الرحيم كان يرغب سنة 1936، أن يشتغل خلال العطلة الصيفية بمصلحة الترتيب، أي ما يعرف بالضريبة القروية في عهد الاستعمار، على غرار أبناء مدينة سلا والرباط، وكانت لا تقبل العمل بها إلا من لا تقل أعمارهم عن سن السادسة عشرة، وكان العمل بضريبة الترتيب يتم في البيت يأخذ الشباب معهم الوثائق ويقومون بما يطلب منهم، ليعودوا بها إلى مصلحة الترتيب».
في سنة 1928، التحق عبد الرحيم بوعبيد بسلك التعليم الابتدائي بمسقط رأسه سلا، التي كانت تضم أبناء الأعيان، رغم أن والده كان نجارا تقليديا، استطاع الفتى مقارعة «الأكابر» وحصل سنة 1934، على شهادة الدروس الابتدائية بدرجة ممتاز ليلتحق بعد ذلك بثانوية مولاي يوسف، كطالب داخلي لمدة خمس سنوات.
كان حلم والده النجار البسيط، أن يحصل عبد الرحيم على منصب ساعي البريد، ولكن مدير المؤسسة أقنع «موسى بوعبيد»، بأن ولده يجب أن يتقدم في الدراسة إلى أعلى مستويات، خاصة بعد نجاحه في مباراة الولوج إلى مدرسة المعلمين، بـ«كوليج» مولاي يوسف. وهنا يظهر أن الأقدار شاءت أن يتمم عبد الرحيم بوعبيد مساره الدراسي رغم كل العراقيل، وأن يصبح من بين القادة الوطنيين في السياسة المغربية.
حصل عبد الرحيم بوعبيد، في نفس سنة 1938 على شهادة البروفي، وشهادة الدروس الإسلامية، بقي عبد الرحيم في «كوليج» مولاي يوسف، وسيتخرج عند نهاية السنة الدراسية 1938-1939، من القسم الخاص بالمعلمين. يقول عبد اللطيف جبرو: «بعد خمس سنوات من الدراسة تخرج عبد الرحيم من كوليج مولاي يوسف كمعلم، وكان ناظر المدرسة آنذاك هو «لوسيان باي» الذي سيجده عبد الرحيم بوعبيد أمامه سنة 1956، وجها لوجه ضمن المسؤولين في الحكومة الفرنسية الذين تفاوضوا مع المغرب بشأن الاتفاقية الثقافية بين المغرب وفرنسا، وفي سنة 1940 نجح عبد الرحيم في امتحان التخرج من مدرسة المعلمين بكوليج مولاي يوسف، وحصل على أول وظيفة في التعليم لمدة سنتين، وانتقل من فاس إلى سلا مسقط رأسه في أكتوبر 1942. لقد دخل عبد الرحيم مهنة التعليم وعمره لا يتجاوز 18 سنة».
وحسب عبد اللطيف جبرو، فإن عبد الرحيم بوعبيد أصبح معلما بمدرسة اللمطيين بفاس، خلال السنة الدراسية 1939-1940، ويحضر في الوقت نفسه شهادة الكفاءة المهنية للتدريس، وأيضا شهادة الباكالوريا (فرع الفلسفة)، قبل أن ينفصل عن الدرس والتحصيل ويتفرغ للسياسة.
يقول المؤرخ السياسي، المعطي منجب: «بوعبيد لم يغتن خلال الأشهر التي كان فيها وزيرا للاقتصاد والمالية، فهو الذي وضع أسس النمط الاقتصادي المعتمد إلى اليوم، ورغم ذلك لم يراهن على تكوين ثروة شخصية كما فعل آخرون، بل بقي نزيها حتى أنه لم يكن يمتلك بيتا خاصا به، إلا بعد سنوات من الاستقلال ولأسباب خارجة عن إرادته، وظل يتنقل بين الرباط وسلا وهو وزير على متن دراجته النارية».
– محمد سابوه.. وزير مالية مر مرور الكرام
على امتداد الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام للبلاد، ظل منصب وزير المالية موضع جاذبية، بل إن الملوك والسلاطين المغاربة على مر التاريخ، اعتبروه المنصب الأكثر مدعاة لجرعات الثقة اللازمة، مقارنة مع بقية المناصب الحكومية، فهو الخازن العام تارة والواقف على مال بيت المسلمين تارة، والآمر بجمع الجبايات وصرف نفقات الدولة. ومنذ حصول المغرب على الاستقلال ظل هذا المنصب حكرا على أهل فاس دون سواهم من المغاربة، مع بعض الاستثناءات القليلة التي لا تبرر القاعدة. حين أسند المنصب إلى وزير من أصول أمازيغية يدعى محمد سابوه..
كان منصب وزير المالية محجوزا لمن لهم أصول فاسية، رغم أن أهالي سوس هم الذين ارتبطوا في أذهان المغاربة بإجادة الحساب، فنجحوا في تجارتهم التجارية وكانوا مضرب المثل في التدبير والترشيد المالي. كان سابوه هو الأمازيغي الذي تسلل إلى وزارة المالية دون أن ينتبه إليه محمد كريم العمراني الذي اختار التشكيلة بإيعاز من الملك، قبل أن يستدرك «الخلل» وينهي مقام سابوه على رأس مالية المغرب، بعد ثلاثة أشهر فقط من الاستمتاع بوجاهة الوزراء. رغم أن الوزير المتحدر من تافراوت لم يكن يتلقى راتبا من الحكومة، أو أن قصر فترة استوزاره لم تكن كافية لوزارته بإنهاء مسطرة صرف راتب الوزير. لقد جاء تعديل وزاري سريع أعاد الأمور إلى نصابها العرقي، وتبين للجميع أن صفة وزير المالية ستظل حكرا على الفاسيين منذ عبد القادر بن جلون في أول حكومة قادها مبارك البكاي، إلى عهد نزار بركة سليل أسرة الفاسي الواسعة النفوذ، والذي عين وزيرا للاقتصاد والمالية في حكومة يرأسها عبد الإله بنكيران.
على امتداد ثلاثين حكومة، ظل الشأن المالي حكرا على أهل فاس، وحين منحت «لمكناسي وشلح وعروبي» سلطة المال، ترتب عن القرار لغط كبير، ولم يتنفس الفاسيون الصعداء إلا بعد أن استعادوا المنطقة المالية المتنازع حولها، ونجحوا في الفيتو، بل إن كثيرا من المناصب الخاصة بهذه الوزارة قد تم تداولها بين الأهل والأقارب، وكأن مدينة فاس تخصصت في إنجاب وزراء المالية.
– بوفتاس.. ينفق مرتبه على مرافقيه
يعتبر عبد الرحمن بوفتاس من أعلام قبيلة أمانوز وإقليم تيزنيت وسوس. رجل دولة وفاعل جمعوي من مؤسسي جمعية إيليغ للتنمية والتعاون، ووزير سابق للإسكان في عهد الملك الحسن الثاني. كان حريصا على التواجد في جميع المناسبات المقامة في مختلف قبائل إقليم تيزنيت، وكان عاشقا لرقصات أحواش بمسقط رأسه إزربي بقبيلة أمانوز، ويزور عدة مناطق بدائرة تافراوت.
قال عنه الدكتور محمد فاروق النبهان، المدير السابق لدار الحديث الحسنية: «من أبرز الشخصيات السوسية التي حظيت بالاحترام والتقدير، وهو رجل ثري وابن أسرة ذات مكانة اجتماعية، وله أعمال تجارية واسعة، عرفته لأول مرة عندما أسندت إليه وزارة السكنى، كنا نلتقي في المناسبات الرسمية، وهو سوسي أصيل، وله مكانة بين أبناء سوس، كان الكل يحبه ويثني عليه أولا بسبب أخلاقه السمحة، وثانيا بسبب ما اشتهر به من سخاء، كان بيته يدل على أنه بيت كرم وسخاء. كان من عادته في شهر رمضان أن يقيم حفلات الإفطار ويكرم العلماء الذين يفدون على المغرب في هذا الشهر للمشاركة في الدروس الحسنية، وكان صدره رحبا ونبيل الخصال. ينفق كل مرتبه عندما كان في الوزارة على مرافقيه لم يكن بحاجة إلى مرتبه، ولا أظنه كان يستفيد منه، وأسند إليه الملك الحسن الثاني رئاسة نادي الكولف الملكي في الرباط ، وكان صديقا شخصياً لإدريس البصري، وزير الداخلية، وكانا يلعبان الكولف معا، قبل أن يصدر قرار بإعفائه من الوزارة».
– ثريا جبران.. فاتورة العلاج تلتهم المعاش
بعدما داهمها المرض وأصبحت زبونة للمصحات، طلبت ثريا جبران، وزيرة الثقافة، من الملك محمد السادس إعفاءها من مهام لا تملك القدرة الجسدية والذهنية لممارستها، واختارت المغادرة الطوعية، كي تتفرغ للعلاج. استجاب القصر للملتمس وتم تعويضها في تعديل حكومي صيفي ببنسالم حميش، في ما يشبه «البريكولاج» السياسي. لم تستفد ثريا من منصبها الوزاري، وظلت تقطن في نفس السكن، بل إن كل معاشها رصد لعلاج وضع صحي حولها إلى أسيرة لسرير المرض، بعيدة عن صخب الوزارة وترفها.
يقول المقربون من ثريا إنها عانت في آخر أيام استوزارها وتبين للجميع أن مقامها لن يطول، خاصة بعدما تصدى لها بعض رفاق الأمس، الذين شنوا حربا بلا هوادة على السيدة التي كانت وزيرة للمسرح أكثر من الثقافة، ففي زمنها القصير أصدرت الدفعة الأولى من بطاقة الفنان، وأصرت على أن يتم التسليم تحت قبة البرلمان لما له من دلالات، لكنها لم تتمكن من استكمال نواياها بعد أن استبد بها المرض الناتج عن خلافات عائلية حالت دون تحقيق انتظارات أهل الفن، الذين لاحت أمامهم بارقة أمل بتعيين فنانة مسرحية كانت في زمن إدريس البصري ممنوعة من الصرف، بل إن أعمالها المسرحية كانت مصدر قلق لكثير من الأجهزة الأمنية، سيما أمام ميولاتها اليسارية.
ثريا جبران التي عرفها المغاربة من خلال إعلان قنينات الغاز، أو من خلال الوصلة الإشهارية للوقاية من حوادث السير، حين رددت لازمتها الشهيرة «أناري جابها فراسو»، آمنت بأن الضغط السياسي يولد الانفجار فاعتزلت السياسة خشية على نفسها.
– أخنوش العلمي وعجول والآخرون
حسب صحيفة ذات توجه اقتصادي، فإن ثلاثة وزراء في حكومة بنكيران الحالية لا يتوصلون برواتبهم، بعدما طلبوا الإعفاء من الأجر منذ أن تسلموا الحقائب الوزارية، ويتعلق الأمر بعزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري، بالإضافة إلى مولاي حفيظ العلمي، وزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، لعدم حاجتهما إلى راتبيهما باعتبارهما رجلي أعمال يتوفران على ثروات مالية ضخمة، في حين أن الوزير الثالث وهو المصطفى الرميد، اختار وسيلة أخرى، إذ عبر عن الاستغناء المشروط عن الراتب «مقابل تحويله إلى ميزانية وزارته لتمويل الأنشطة التي تقوم بها وزارته»، دون أن يكشف عن نوعية الأنشطة.
وعلى المنوال ذاته سار العربي عجول، الوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بالبريد والتقنيات الحديثة والاتصال، في زمن التناوب، ضمن الأعضاء الحكوميين الذين بلغوا 39 شخصا بين وزير للدولة ووزير وكاتب للدولة.
رواتب وتعويضات الوزراء
حدد الظهير الشريف رقم 331.74.1 الصادر بتاريخ 23 أبريل 1975، أجور أعضاء الحكومة المغربية وتعويضاتهم وكذا الامتيازات التي تمنح لهم. وبحسب هذا الظهير، يتقاضى أعضاء الحكومة، باستثناء كل أجرة أو تعويض آخر غير منصوص عليه في هذا الظهير، مرتبات شهرية (راتب أساسي) تتراوح ما بين 32000 درهم لرئيس الحكومة، و26000 درهم لباقي أعضاء الحكومة. وعلاوة على هذا المرتب الشهري، يتقاضى أعضاء الحكومة التعويضات التالية:
تعويض عن التنصيب حدد في 20 ألف درهم لرئيس الحكومة، و10 آلاف درهم لباقي الوزراء.
تعويض انتهاء المهام الذي يعادل راتب 10 أشهر لكل عضو من الحكومة.
تعويض التمثيل: الذي يترواح ما بين 26000 درهم للوزراء، و32000 درهم بالنسبة إلى رئيس الحكومة.
تعويض السكن (15000 درهم)، تعويض التأثيث: أي عن صوائر التأثيث والأواني والأدوات الزجاجية والفضية بمبلغ إجمالي محدد في 5000 درهم، بالإضافة إلى امتيازات أخرى.