الرأي

مدونة الأسرة بين التيار الحداثي والتيار المحافظ!

أحمد ادبوقري

لا خلاف في أن النقاشات المتباينة التي تعرفها الساحة الوطنية بشأن تعديل مدونة الأسرة تشكل دليلا قويا على أن المجتمع حي ( حياة معنوية طبعا) وهذا أمر إيجابي بالفعل.

ولا مجال للانتقاص من رأي على حساب آخر، في حين لا عيب في الانتصار لرأي دون الآخر ، فالانتقاص احتكار والانتصار اصطفاف .
فإذا كان فقهاء السياسة باختلاف مرجعياتهم مختلفون في آرائهم، وكل له مبرراته التي تجعله متمسكا بما يراه وجيها، فإن فقهاء القانون يستندون فيما يرونه إلى الواقع القضائي والقانوني المستمد مما يعايشونه من قضايا أمام المحاكم والتي يعتبرونها سببا وجيها لإجراء التعديلات ، فيما فقهاء الشريعة يرجعون إلى النصوص الشرعية المستوحاة من الكتاب والسنة .

والمنطق هنا يفرض أن يترك فقهاء السياسة المجال أمام فقهاء القانون وفقهاء الشريعة للتفرغ إلى حوار هادئ وعلمي رزين قصد الخروج بخلاصات نهائية مقنعة وهي الخلاصات التي يمكن آنذاك لفقهاء السياسة مناقشتها واعتمادها في أية تعديلات ممكنة ، أما أن يتطاول الساسة ( مهما كانت ثقافتهم ومستوياتهم العلمية والفكرية ) على مجال دقيق كهذا ويحتكمون لأهوائهم وانتماءاتهم السياسية للقول بوجوب تعديل فهذا لا يمكن أن نسميه إلا العبث.

فعملية التصويت داخل البرلمان على تشريع معين تثير الكثير من الملاحظات، خاصة وأننا نعلم أن أغلب البرلمانيين حينما يطرح مشروع للتصويت يعتمدون على انتماءاتهم في تحديد مواقفهم ولا يعتمدون بالمطلق على الفكر والعلم ، فكيف لمن ليس موقفه بيده أن يبدي رأيا في مسألة كمسألة التشريع ؟!.

شخصيا لا أرى مانعا من ملائمة القوانين مع الوضع الجديد الذي يعيشه المجتمع ، ومن أن يتطور القانون كلما تطور المجتمع وتغير الواقع المعاش، لكن هل حقيقة هذا هو سبب الهبة التي أدت إلى احتدام النقاش خول تعديلات مدونة الأسرة؟ أعتقد أن الأمر ليس كذلك بل هو ادعاء أريد له أن يغطي الإملاءات الخارجية الصادرة عن المؤسسات الدولية الحاكمة حكما فعليا في العالم ( صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي) .

إذن لا بأس في أن يعاد النظر في القوانين انطلاقا مما يفرضه الواقع وتغيراته، لكن البأس في أن يكون التعديل بناء على إملاءات لها غايات أخرى غير حماية القانون وحماية المجتمعات.

ثم إذا رجعنا إلى الترسانة القانونية للمغرب، فهل القوانين المعمول بها تساير كلها الواقع ؟ لماذا لم يفتح نقاش كهذا حول قانون التحفيظ العقاري وهو القانون الأكثر إثارة للمشاكل والجدالات داخل المحاكم ، وحتى ما يصدر من اجتهادات عن محكمة النقض لم يرق بعد لمعالجة الاشكاليات؟ لماذا لم يفتح نقاش حقيقي حول القانون المتعلق بما يسمى أراضي الجماعات السلالية ( أراضي الجموع) وهو قانون يهدد باستمرار مستغلي الأملاك المحسوبة على هذا النوع منذ الاستقلال إلى يومنا هذا؟ لماذا لم يفتح نقاش جاد حول القانون الجنائي الذي لا يقيد القاضي بعقوبات واضحة ويفتح باب الاجتهاد بحجة السلطة التقديرية ؟ لماذا لا تراجع عدد من القوانين التي تهم الحياة العامة للمواطنين مثلما وقع التأهب بهذه الدرجة لتعديل قوانين الأسرة وخاصة منها المستمدة من الدين الاسلامي؟

أه، مناصرو التعديلات يرفضون إقحام الدين في النقاش، ويصرون على أن التمسك بالدين حرية والتخلي عنه حرية، إذن مثلما فعلت الدولة في شأن الفصل بين قانون الأسرة المتعلق بالمسلمين وقانون الأسرة العبري فلتفعل في الأمر كله، فتحدث قانونا مدنيا لا هو للمسلمين ولا هو لليهود بل لفئة ثالثة لا نعرف من تكون، فيفتحون المجال للمتقاضين باختيار القانون الذي يناسبها وتحتكم على أساسه للقضاء عند نشوب أي نزاع أو خلاف بينهم، مع ضبط طريقة الاحتكام في حالة اختلاف فريقي المتقاضين من حيث مبدأ كل منهما.

البعض يزعم أن المراجعة تهم أحكام الإرث وحدها، والغالب في النقاشات أنها تهم أحكاما عديدة في نظام الأسرة، بدءا من أحكام الزواج والطلاق وانتهاء بأحكام الإرث والحالة المدنية ، والكل سيلاحظ أن الإعلام استغل احتدام النقاش بقوة مثلما استغله خلال التعديلات التي عرفتها مدونة الأسرة خلال سنة 2001 ، والكل يذكر أن الإعلام انخرط بقوة للترويج للتعديلات المنجزة، وبحكم أن أغلب الإعلاميين قاصرون في فهمهم ، فإنهم أعطوا انطباعا خطيرا للأسر على أن المدونة جاءت لتنتصر للمرأة، وأنها أنصفتها أيما إنصاف، وأعطتها حقوقها لم تؤت مثلها من قبل ، وكانت نتيجة ذلك لجوء النساء أفواجا إلى المحاكم لطلب الطلاق طمعا في الاستفادة من امتيازات كاذبة لا أصل لها ، وارتفعت نسب الطلاق في مختلف محاكم المملكة، وكان القضاء في بداية الأمر يحكم للزوجة بواجب المتعة سواء كانت مدعية أو مدعى عليها إلى أن فطن القضاء وانتبه فعاد لتتواثر أحكامه بحرمان الزوجة من المتعة متى كانت مدعية .

وأتوقع أن نفس النتيجة ستحدث بسبب عشوائية النقاش الإعلامي بمناسبة التعديلات المرتقبة بأحكام مدونة الأسرة.

ختاما، إن أية تعديلات مرتقبة يجب أن تخضع لدراسات حقيقية يتولاها علماء الاجتماع ومكاتب الدراسات المشهود لها بالاحترافية للوقوف على حقيقة الوضع، وإن الإعلام مدعو للتريث وعدم المبالغة في وصف التعديلات المقترحة أو التي سيتم التصديق عليها ، أو على الأقل الاعتماد في المناقشات الإعلامية والترويجية على مختصين في مجال القانون حتى يتأتى للمتلقي استيعاب ما له وما عليه من مصدر عليم وليس من مروجين بغير علم.

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى