الرأي

أخصائي نفسي: المغاربة يخشون المسّ والسحر أكثر من الله

benhamdouch_510789117

أولاً وللتوضيح وحتى لا يقع سوء فهم أو التباس لدى القُراء الكِرام، أنا لست مُلحداً ولا أتبنى فكراً لا دينياً وإنما أنا مؤمن بوجود الخالق عز وجل وبالكلمة الإلهية وبالقرآن الكريم وبجميع الديانات. ولكن الله أعطانا العقل لإعماله ووهبنا الفكر لنتحرى الحقيقة ونتناقش ونتحاور بكامل الاحترام والانفتاح الفكري في أي موضوع كان حتى ولو كان في أعماق غيبية وعقائدية.

أغلبية المرضى المصابين بأمراض نفسانية بعدما يعرضون قصصهم ويشكون أعراض أمراضهم يختمون عرضهم بهذه العبارة “درت الرقية الشرعية وقالي لْفْقيهْ مَعْنْدكْ لا مس ولا سحر عندك الأعصاب”. وبالرغم من أنهم زاروا على الأقل فقيهين أراهم غير مقتنعين بهذه النتيجة. وبما أن لا حل لديهم سوى العلاج الطبي فإن البعض يلجؤون إليه مُكرهين. وبعد الخضوع للعلاج وتحسن حالتهم النفسية أسألهم إذا اقتنعوا الآن بأنه لم يكن هناك مس أو سحر فجوابهم يكون كالتالي :”الله وْعْلم ولكن قالوا لي بْليِّ الدْوا ديالكم مَكَيْتفَقْشْ مع المس وْمْشاوْ بْحالْهم”. رغم تجربتهم فالإيمان بالمس والسحر ثابت لديهم.

ألاحظ أن ربط الاضطرابات و المشكلات النفسية بالمس والسحر ينخفض نسبياً كلما كانت درجة الثقافة مرتفعة كما أن الاعتقاد بهذه الظاهرة ينخفض كلما ارتفعت درجة الوعي وبطبيعة الحال درجة الوعي ترتفع مع المستوى الثقافي وليس من الأكيد في كل الحالات أن كل متعلم و مثقف له وعي متنور فهناك أيضا في فئة الأميين من لهم درجة وعي عالي تفوق بعض المتعلمين.

ومهما كان مستوى الثقافي والوعي عند المغربي حتى و لو لم يكن يربط بالضرورة بين الاضطرابات النفسية و العقلية مع المس والسحر ألاحظ أن المغاربة يعتقدون بدون أي شك بالمفاهيم الشعبية حول المس والسحر و يستعملون العبارة المعروفة في ثقافتنا لتبرير هذا الاعتقاد “وَمَذْكورينْ في القرآن”!

نعم، ورد ذكر اسم الجن في القرآن الكريم ولكن ما تربطه الثقافة المغربية بالجن (وصف الجن وسلوكه وما يلحق بالإنسان من أضرار) لم يذكر في محكم الكتاب الكريم وإنما هي إبداعات واختراعات أنتجها الجهل وتأويلات أصدرها من كان له منافع شخصية مغتنماً فرص تفشي الجهل والأمية بين عوام الناس. ومع اني لست من أهل الاختصاص في اللغة العربية لكن لاحظت أن كل كلمة مركبة من حرفي “ج” و”ن” فهي من الغيبيات ولا تدرك بالعين المجردة و لها اشتقاقات كثيرة مثل: “الجن” و”الجنين” و”الجنة” و”الجنون”. فأين هو الكلام الإلهي الذي يصف الجن وضرباته بما هو منتشر ومذكور عنه في الثقافة الشعبية التي عادة ما تُرجع سبب مرض أي شخص بمس الجن له ؟

فمنذ الأزمنة الغابرة القديمة جرت العادة لدى الناس عند تعاملهم مع أية ظاهرة غير مألوفة أو مرض مجهول أن يلجئوا إلى ربطه بقوى أخرى غير مرئية و غير ملموسة كالمس أو تلبس الجن أو ضربات السحر وهي أمور مجهولة غير محسوسة ولكن تصبغ عليها صبغة قدسية تختلط بالمفاهيم الدينية و الروحية للشعوب و تترسخ كعقائد جامدة في الذاكرة الجمعية العامة. فنرى عدة أمراض معروفة حددها الطب وحدد أسبابها واخترع طرقاً و أدوية لعلاجها كمرض الصرع ومرض الهستريا ومرض الدهان… حيث كانت هذه الأمراض في الماضي تنسب في الثقافات القديمة الشرقية و الغربية إلى المس.

ففي الهستيريا مثلاً بإمكان المريض أن يتكلم لغةً مختلفة عن لغته الأم ولم يسبق له أن درسها أو أن يتغير صوته إلى صوت رجل عند امرأة مصابة بها مثلاً وهذه الظواهر كانت تحير الإنسان فتنسب في ثقافتنا الشعبية إلى مس الجن و في اوروبا حتى زمن قريب كان بعض رجال الكنيسة يتعاملون معها على أنها حالات مس. وشخصياً أجد أن مُعظم أو جُل ما يحكى من حكايات عن الجن و تلبسها بالناس هو اختراع بشري مصدره ثقافة الجهل و لا أساس له من صحيح العلم أو الدين و بعيد كل البعد عن الحق والواقع وعند رجوعنا للنصوص القرآنية نجدها أنها لا تتحدث مطلقاً عن الجن او “جْنونْ” الموصوفين لدينا في ثقافتنا الشعبية بتلك الأوصاف الغريبة العجيبة التي نسمعها من اهل الدجل و الشعوذة .

أنا متأكد أن ما كتبته إلى حد الآن حول هذه المنطقة الشائكة لن يتقبله بسهولة الاعتقاد المغربي الشعبي و أعلم أن أصابع الاتهام بالكفر و الالحاد ستتوجه إلي مسبقاً و هي بنفسها خير شاهد و دليل على أن الإيمان بهذه الخرافات عن الجن و المس يفوق لدى الوجدان العام الإيمان بالله تعالى.

وبالنسبة للسحر كيف للعقل المتوازن المثقف أن يعتقد بأن السَّاحر أو ما يُسمى “لْفْقيهْ” بعد أن يقرأ ما يقرؤه من طلاسم ويمزج بيضة مع “القطران” وشعر الضحية بـ دَمِ الديك مثلاً ويلقي بهذا الخليط في النار سوف يقع لصاحب هذا العقل مضرة كخسران في تجارته أو طلاق أو أن يقع في عشق فتاة ما للزواج منها وإلخ… و كيف يُعقل مثل هذا الاعتقاد و ليس للساحر معرفة بالضحية و لا قدرة على التحكم في مثل هذه الأمور سواءً لنفسه أو لغيره؟ ولكن إذا أراد “لْفْقيهْ” بناء ً على طلب زبونه أو زبونته تسميم ضحية ما بشكل مباشر فإنه سيلجأ إلى تقديم مادة طبيعية أو كيماوية مركبة سامة تُوضع في طعام أو مشرب أو ملبس الضحية و يكون بطبيعة الحال لها تأثير سلبي متى تم استعمالها بدرجات متفاوتة فإما أنها تقتل مباشرة أو تعطل الوظائف الحيوية أو تلحق اضراراً جانبية و هذا هو ما يسمى في الثقافة الشعبية بـ”التَّوْكال” و هو ليس بأمر سحري خارق للطبيعة و إنما توظيف لوصفات كيميائية معينة.

فهناك عاملين أساسيين لمحاربة هذا الاعتقاد الجاهلي:

1- الثقافة:

فإذا كان العقل يحمل ثقافة سوية مبنية على الفكر النقدي والعلمي التحليلي المنفتح على روح العصر فإن صاحب هذا العقل سيكون فرداً قادراً الاطلاع على حقيقة الأمور والبحث فيها و لن يسمح لنفسه بالاعتقاد بمثل هذا النوع من الجهل بل سيحاربه في وسطه ومحيطه. فالثقافة السليمة تحمي الفرد من أمثال هذه الاعتقادات الوهمية الكارثية سواءً كان مؤمناً بدين معين أو كان صاحب فكر لا ديني. لكن لابد أن نميز هنا بين التمدرس المفروض والثقافة التي تستحضر الفكر وتطور الوعي وتنمي آليات و أدوات النقد والتساؤل في كل الأمور وتمنح للفرد الثقة في النفس والتعبير بكل حرية عن وجهات نظره وتساؤلاته وتخلق الحوار والمشاورة المنشودة لتنوير العقل. إن غياب الثقافة الواعية والاعتماد فقط على التمدرس التلقيني يحول الفرد غلى مجرد مستودع معلومات يفرغ ما في رأسه في ورقة الامتحانات ثم ينسى جل ما تعمله و يفقد القدرة على الابداع و على تطوير فكره بحيث يصبح عرضة لكل أنواع التضليل و الخداع و يمكن إخضاعه بسهولة لسلطة الخرافات و المُسلمات الجاهزة. ولكن إذا أضفنا الثقافة فسوف يتغذى الفكر ويطور المعلومات التي زُود بها عبر المناهج الدراسية ويكتشف كيفية استعمالها و استثمارها في حياته و لن تكون قدراته الفكرية محصورة فقط في أعمال وظائفية محدودة مرتبطة برزق يومه. فالثقافة لها مفهوم خاص و جد واسع ويختلف عن مفهوم التَّمدرس وله أبعاد كثيرة لأن الثقافة هي التي تنور الفكر على المدى البعيد وليس برامج و مناهج التعليم فقط.

2- الإيمان: وهنا أتحدث على نوعين من الإيمان:

أ- الإيمان بالله: إذا كان بالفعل للفرد إيمان صحيح حصل عليه بالبحث الشخصي عن الحقيقة واستعمل فيه التساؤل والنقد وليس ذلك الإيمان السطحي الموروث والذي يكتفي فقط بالقول “أنا مؤمن” مع مخالفة الأفعال للأقوال. أما هذا الإيمان الفردي الصادق القائم على ركائز متينة فلن يتقبل الاستسلام لسيطرة أية اعتقادات أو تصورات خرافية تتعلق بـ السحر أو مس الجن كما يوصفان في ثقافتنا الشعبية لأن في حالة الإيمان الحقيقي، يضع الإنسان كل ثقته بشكل كامل و تام بين يدي الله و الإرادة الإلهية. وبهذا الشكل تكون الثقة في النفس وفي الإيمان وفي القدرة الإلهية عظيمة جداً وعالية بحيث لا تترك أي مجال لهذه التصورات الوهمية القادمة من جهالة عصور الظلمات.

ب- الإيمان بالعلم :سواءاً أكان الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن فإن إيمانه بـ العلم يحميه كذلك من هذه الاعتقادات الناتجة من ركام ظلمات الفكر. فالإيمان بالعلم يحمي الفرد و يرسخ لديه اليقين بأن العلم بحار واسعة لا حدود لها من المعرفة و أن اية ظاهرة لا تفسير لها اليوم في معرفتنا العلمية يمكننا أن نكتشف أسرارها في المستقبل. فمثلا مرض الصرع الذي لم يكن العلماء في السابق قادرين على تفسيره و شرحه شرحاً عِلمياً أصبح اليوم مرضاً معروفاً و قابلاً للعلاج . فإذا عجز العلم حالياً فهذا لا يعني أنه سيعجز مستقبلاً لأن المعرفة الإنسانية نسبية و قابلة للتطور و التعديل و التعميق خاصة في حقول المجالات العلمية لذلك لا يمكننا أن ننعت العلم بالعجز و القصور و نستسلم للأفكار الجاهلية. مثلاً في الماضي كان رجال الدين يتباهون بأن سر تكوين الجنين هو من علم الله وحده ولا أحد يستطيع أن يعرف إن هل سيكون ذكراً أم أنثى. فنرى اليوم أنه بفضل تقدم المعارف العلمية و التكنولوجية أصبح بمقدور الأطباء إجراء عمليات جراحية دقيقة للجنين بدون فتح بطن الأم وصار بإمكاننا رؤية الجنين بالألوان على الشاشة. كما أن العلم الحديث حالياً يفسر العديد من الأمراض مثل مرض الاكتئاب الذي كان في الماضي يفسر بـ “ضعف الإيمان” ولكن ثبت اليوم أن سببه هو اضطراب بيولوجي بالدماغ.

ت- اليقين: الفرد المؤمن عليه أن يصل إلى عين اليقين الإيماني قبل أن يتفوه بأي شيء وهذا أمر مفروض عليه دينياً. وحتى بالنسبة للملحد أو اللاديني المؤمن بالعِلم فاليقين مفروض عليه من طرف العِلم قبل أن يزعم أي شيء. فإذا قال أن سبب ضر أحد هو السحر أو المس فأي يقين علمي عنده إذن؟

يتضح لنا أن غياب سبيل اليقين و الحقيقة المطلقة هو الركيزة الأولى للإيمان وللعلم. فإذا تأملنا في مجتمعنا فأي إيمان و أي يقين يسمح لنا بالاعتقاد بهذه الخرافات المخترعة المتوارثة والقادمة من ركام العصور و العهود البائدة؟ أليس هناك تناقض عظيم بين ما وصلت إليه البشرية من معارف علمية و بين هذه الموروثات الوهمية السائدة في مجتمعنا و التي هي من أسباب تخلفنا؟ لقد حان الأوان لتحرير عقولنا و فتح الأفاق أمام الأجيال القادمة لبناء مجتمع سليم قائم على الإيمان الصادق المستنير و مناهج العلم القويمة.

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى