الرأي

العقل المغربي: جدلية الإلحاق والإستقلالية ملاحظات نقدية حول المشروع الحضاري لمحمد عابد الجابري

عبد الله الفرياضي
 يعتبر محمد عابد الجابري بدون جدال أحد أهم فلاسفة المغرب خلال القرن العشرين إلى جانب كل من عبد الله العروي وطه عبد الرحمن وأعلام مغاربة آخرين. فيلسوف أعاد للفعل الفلسفي وللفكر النقدي المغربي عموماً بعضاً من وهجه الذي كاد ينطفئ تحت ضغط الهجمات التي توالت عبر قرون من الزمن مستهدفة تحنيط “العقل المغربي” وتشميع مسامه. عقل أبانت شواهد التاريخ أنه ما إن تخبو جذوته – بفعل فاعل – حتى ينبعث من رماده بقوة ليستأنف شغبه الفكري الخلاق من جديد، تماماً كطائر الفينيق كما تروي الأسطورة أو كما الشمس لا تغرب إلا لتشرق من جديد. غير أن هيمنة الهاجس الإديولوجي على الإنتاج الفلسفي للجابري – بسبب تأثره بالفكر القومي العربي – جعل أطروحته الحضارية هدفا سهلاً ومستساغا للنقد والتجريح. ولعل أهم منزلق فكري أوقعت فيه فخاخ الإيديولوجيا فيلسوفنا الجابري أثناء صياغته لمشروعه الحضاري؛ هو إصراره المستميت على إلحاق “العقل المغربي” قسراً بالمجال المحجور عليه من قبل “العقل العربي”.
لكن هل ينتمي العقل المغربي فعلاً إلى حضيرة العقل العربي كما يدعي الجابري؟ أم أن الانفتاح الدائم للعقل المغربي على الغير المختلف ثقافياً قد أسقط الجابري في وهم إمكانية إلحاقه بالعقل العربي؟
التأصيل للعقل العربي مغربيا
المتتبع للإنتاج الفكري الغزير للفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، سوف يلاحظ بلا شك أن الخيط الناظم بين مختلف مؤلفاته هو التنظير للعقل العربي. وذلك ما يظهر جليا في “رباعية نقد العقل العربي”، مروراً بكتبه الأخرى من قبيل “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” و”وحدة المغرب العربي” و”نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر”، علاوة على أعماله بشأن “المسألة الثقافية” و”مسألة الهوية بين العروبة والإسلام والغرب” و”مراجعته النقدية للمشروع النهضوي العربي” وصولاً إلى كتبه حول العلاقة مع التراث و”سلسة مواقفه”.
لقد خلف الفيلسوف الجابري بدون شك إنتاجا فكرياً ضخماً أسس به لمشروع فكري وحضاري لا يكاد الباحثون يختلفون في ثرائه وأهميته وعمقه. عمق كاد أن لا تمسسه شائبة لولا أن الإيديولوجيا قد انتصرت فيه انتصارا ساحقا على ما تقتضيه الصرامة الإبستيمولوجية.
صرامة كانت لتلزم فيلسوفنا بضرورة عدم القفز على حقائق التاريخ. تاريخ يؤكد بماضيه وحاضره أن العقل المغربي يشكل كيانا مستقلاً لم يقبل في الماضي صهره ضمن “عقول” الغير الذين تفاعلهم ولن يقبل اليوم أيضاً أن يلحق بالعقل العربي ولا الغربي.
إن إصرار الجابري على إلحاق العقل المغربي بالعقل العربي قد اصطدم بدون شك بمعطيات الواقع الماثلة أمام ناظريه والتي تؤكد له استقلال العقل الأول عن الثاني، وهو ما دفعه في بداية السبعينات من القرن العشرين من خلال كتابه “أضواء على مشكل التعليم بالمغرب” إلى المطالبة بضرورة تنزيل المبادئ الأربعة (المغربة والتعميم والتعريب والتوحيد) كحل وحيد لتجاوز الأزمة الخانقة التي يعيشها قطاع التعليم بالمغرب. غير أن الهاجس الحقيقي الذي كان يحكم الجابري بشكل أكبر لم يكن تجاوز الأزمة فحسب، وإنما ضمان آلية رسمية قوية تخدم مشروعه القومي، ألا وهي آلية التعريب. وهو ما سيكشفه فيما بعد في إحدى أعداد سلسلة “مواقفه”.
حيث شدد على أن تحقيق التعريب الشامل “شرط ضروري لإثبات هويتنا وتأكيد أصالتنا”، مضيفاً أن عملية التعريب لا يجب أن تقتصر على “التعليم بمختلف مراحله وشُعَبِه” فحسب، وإنما يجب أن تشمل أيضا “لغة الحديث والخطاب في المنزل والشارع والمدرسة” وكذا “الفكر وقوالبه والثقافة وأطرها”.
[1] لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم – وقد تحقق التعريب لعقود في التعليم والإعلام وفي مختلف مناحي الحياة – هو: هل نجح مشروع الإلحاق الحضاري للعقل المغربي بنظيره العربي كما نظر لذلك الجابري في إطار القومية العربية؟
إن واقع الحال يثبت لنا أن الجابري قد نجح كفيلسوف ومفكر في الوقت الذي فشل فيه مشروعه الحضاري القومي. فشل عبر عنه المغاربة بتنصيصهم في ديباجة الدستور الذي اعتمدوه في فاتح يوليوز 2011 على أن “عقلهم” ليس كما نظر له الجابري، وإنما هو عقل مستقل وذو كينونة خاصة هي نتاج انصهار جملة من المكونات هي بالتحديد “المكون العربي والأمازيغي والإسلامي والعبري والإفريقي والحساني والأندلسي”. إن هذه المفارقة لا يمكن تفسيرها – في نظرنا – سوى بما ارتكبه الجابري من قفز متعمد على حقائق التاريخ. وهذا بالضبط ما سبق للمؤرخ الفرنسي “غاستون بواسيي” أن نبه إليه في مقدمة كتابه “إفريقيا الرومانية: رحلة أركيولوجية في الجزائر وتونس”، حين قال أن “ثمة أشياء في الزمن الحاضر لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى الماضي، فما كان في الماضي هو الكفيل بشرح ما هو كائن الآن”.

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى