جورج كتن
بدايات المعتدلين والمتطرفين متشابهة: عملية غسل دماغ داخل المؤسسات والتنظيمات الدينية التي يخرج الإرهابيون من صفوفها لأسباب تتعلق غالباً بنفاذ صبر المستعجلين على الأسلمة.
شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انتفاضات وثورات مكنت لاستغلالها من قبل منظمات الإسلام السياسي التي طرحت نفسها بديلاً للأنظمة الاستبدادية القائمة، فهي الأقدر على استغلال الأوضاع البائسة التي أوصلت الأنظمة مجتمعاتها إليها، إذ يكفيها تذكير الناس بمحفوظاتهم التراثية كأقوى قاعدة لاستبداد جديد بديل العفش القديم القومي والاشتراكي المقاوم والممانع، حيث قطاعات واسعة من هذه المجتمعات استهلكت منتجات الحضارة الحديثة، لكنها رفضت مفاهيمها السياسية والاجتماعية والثقافية المتعارضة مع موروثاتها القديمة التي يقرها الإسلام السياسي على أنها صالحة لكل زمان ومكان.
تطبيق الشريعة في الحكم سيكون نتيجته استبداد شامل لن يقتصر على الشؤون السياسية بل سيتخطى ذلك للشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ليتضمن: أسلمة القوانين وإنشاء نظام عقوبات للجلد والبتر والرجم، واقتصاد يعمم مؤسسة الزكاة ويمنع الفوائد باعتبارها ربا محرم، وقوانين تكرس عبودية المرأة للرجل، ونظام تعليم يركز على حفظ النصوص الدينية على حساب العلوم الحديثة، ومراقبة ومكافحة الفن من غناء وموسيقى ورقص ومسرح وشعر وصور ورسم ونحت، وشرطة دينية تمنع الاختلاط والحفلات ومواد التجميل ومهرجانات ملكات الجمال وعروض الأزياء والأعراس المختلطة والبرامج والأفلام التي تظهر فيها المرأة سافرة، وإغلاق مرافق الفنادق السياحية وملاحقة السافرات ومنع حلاقة الذقون وارتداء البدلة وربطة العنق والتصافح بين المرأة والرجل، واعادة الأقليات الدينية لنظام الذمة والجزية وإخراج أفرادها من الجيش وحرمانها من مناصب قيادية رسمية، ومنع الكتابات المتعارضة مع تفسيراتهم للنصوص، وتقييد الإبداع والبحث العلمي وربط العقل بالنص وتنمية الحقائق المطلقة كبديل عن الحقائق النسبية وإلغاء الفكر النقدي، ورفض أوجه من التكنولوجيا الحديثة، والترويج لثقافة الموت والانتحار والزهد بالحياة “الفانية”، ورفض العولمة المؤدية لترابط الأمم من أجل مصالحها المتبادلة وتفضيل انقسام العالم بين معسكري إيمان وكفر، وخوض حروب “جهاد” لنشر الدين في العالم.
التفريق بين المعتدلين والمتطرفين الإسلاميين صحيح في بعض الحالات، ولكن كثيرين من المعتدلين، لم يوفروا مناسبة لتبرير الإرهاب التكفيري بطرق مواربة. ففي مرحلة التمكين تتناقص الفروق بين الإسلام السياسي المعتدل والمتطرف، فالأهداف مشتركة رغم ان الوسائل مختلفة، وبدايات المعتدلين والمتطرفين متشابهة، عملية غسل دماغ داخل المؤسسات والتنظيمات الدينية التي يخرج الإرهابيون من صفوفها لأسباب تتعلق غالباً بنفاذ صبر المستعجلين على الأسلمة.
لقد ثبت من تجارب عديدة ان تطبيق الشريعة غير ممكنة بالوسائل السلمية وقد رأينا فشل اخوان مصر وتونس بتطبيقها عن طريق ركوب الموجة الديمقراطية، فقد واجها في البلدين انتفاضة شعبية انهت حكمهم في فترة قياسية. الاخوان في مصر لم يقبلوا بالطريق الديمقراطي الا بعد فشل متلاحق، منذ “التنظيم السري” في الخمسينات والستينات الذي ارتكب اعمال إرهابية في عهد عبد الناصر، الى “الجماعة الإسلامية المسلحة” التي خرجت من صفوفهم لتمارس اعمال إرهابية في زمن السادات، وهم الآن على مفترق طرق بين الإرهاب والعمل السياسي. ولم تختلف عن ذلك جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية التي انتقلت لأعمال إرهابية بعد الانقلاب الذي اخرجها من الحكم في التسعينات.
فيما الطالبان الأفغانية خاضت حربا طويلة للقضاء على منافسيها على السلطة الى ان احتلت كابول واقامت امارتها الإسلامية وفرضت بقوة السلاح تطبيق شريعتها ثم انتقلت عن طريق حليفتها القاعدة لضرب مراكز “الكفر” في العالم مما أدى لاحتلال أفغانستان وطرد الطالبان والقاعدة الى الكهوف التي تنطلق منها الآن في عملياتها الإرهابية للعودة للسلطة. وفي الصومال أيضا رفضت حركة الشباب الإسلامية العملية السياسية وهي تقاتل الحكومة منذ عشر سنوات للوصول للسلطة وتطبيق شريعتها.
حماس ايضا بعد نشوء السلطة الفلسطينية رفضت منذ التسعينات المشاركة في انتخابات متتالية رئاسية وتشريعية بحجة ان الديمقراطية تتناقض مع “المقاومة”! وعندما قبلت بالمشاركة ونجحت سرعان ما انقلبت عليها وقامت بانقلابها المسلح في غزة عام 2007 لتنفرد بالسلطة دون “فتح” وتطبق الشريعة بالقوة في القطاع، وظلت منذ ذلك الحين ترفض اية عروض لإجراء انتخابات جديدة متزامنة رئاسية وتشريعية بعد ان فقدت التأييد الذي كانت تتمتع به عندما نجحت في المرة الوحيدة التي شاركت فيها بانتخابات ديمقراطية.
وفي السودان أيضا طبقت الشريعة بعد الانقلاب العسكري الذي تشارك فيه الاخوان المسلمين بقيادة الترابي والبشير الذي انفرد فيما بعد وقضى على شركائه، لكنه استمر في “تطبيق الشريعة” بالعنف حتى انه شن حربين داخليتين احداها لأسلمة الجنوب التي انتهت بانفصاله والاخرى “لتعريب” دارفور التي ما زالت مستمرة فيما يخضع الشعب لتطبيق الشريعة بالقمع والجلد واحكام اعدام المرتدين وغير ذلك مما يسند للشريعة.
وفي إيران، على الجانب الآخر من الإسلام السياسي، الشيعي، لا تختلف الصورة كثيرا، فالولي الفقيه غير المنتخب من الشعب يمارس حكما استبداديا، بسلطاته الواسعة التي تتخطى أية سلطة تشريعية او رئاسية منتخبة، وقواته المسلحة، التابعة له وليس للرئيس المنتخب، جاهزة لقمع اية انتفاضة تطالب بديمقراطية حقيقية تستند لحقوق الانسان العالمية كبديل عن تطبيق شريعة مناقضة للحياة العصرية، كما حدث في الانتفاضة الإيرانية المليونية الخضراء في العام 2009 عندما زورت الانتخابات لينجح مرشح المرشد الاعلى. بالإضافة لحزب الله اللبناني ذي التبعية الإيرانية السائر على نفس النهج بفرض سياساته بقوة سلاحه وبعرقلة الديمقراطية اللبنانية عندما تتعارض مع مصالحه.
أحدث مثال لعدم مصداقية منظمات الإسلام السياسي في قبول الوسائل الديمقراطية للتنافس على السلطة ما يفعله الآن اسلاميو ليبيا الذين كانوا مهيمنين على “المؤتمر الوطني” الانتقالي الذي تشكل بعد اسقاط القذافي. وعندما جرت انتخابات هذا العام لبرلمان دائم لم يحصل التيار الإسلامي على أكثر من 15% من المقاعد لرفض الناخب الليبي لبرامجهم المناقضة للحداثة ومصالح الناس، فأعلنوا انهم لا يعترفون بالبرلمان الجديد باسم “حماية الثورة”! وحاولوا تعطيل انعقاده وعندما فشلوا انتقلوا للعنف ضد السلطة الشرعية المنتخبة وشكلوا تحالفا مع القاعدة والقوى السلفية و”أنصار الشريعة” ويقومون الآن بتدمير المدن الرئيسية للعودة للسلطة بقوة السلاح غير الشرعي.
لذلك ليس من المستغرب تطبيق داعش للشريعة بالقمع والإرهاب والوسائل الوحشية المتبعة التي نشهدها حاليا في سوريا والعراق، فكل التجارب السابقة والراهنة اثبتت ان مشروع الإسلام السياسي المناقض للعصر لا يمكن تحقيقه الا على طريقة داعش والطالبان. واذا كان الإسلام السياسي وصل الى السلطة في تركيا بالانتخابات واحتفظ بها منذ العام 2002 فلأنه رفض تطبيق اية شريعة وقبل بالعلمانية وطبقها عن قناعة.
لا نتوقع نجاحاً للإسلام السياسي في نشر العتمة في أرجاء المنطقة، فستظل المواجهة سجالاً بين قطاعات الشعب الحداثية وممتطى موجة التدين، والناس بطبيعتهم يحبون التمتع بالحياة بألوانها المفرحة وسينضمون بغالبيتهم للمواجهة تدريجياً بعد اقتناعهم من تجاربهم بأن تدينهم حق لهم، لكنه لا يعني تسليم أمورهم لسياسيين يستغلون الدين، أو خضوعهم لرجال دين اجتهاداتهم بشرية تقتبس من الماضي وترفض إصلاح ديني يفسر النصوص بما يتلاءم مع العصر.
إلى أن يحدث ذلك ستدفع مجتمعات المنطقة كفاعلية لتتخلص من أوهام “تطبيق الشريعة”. ولن يبقى العالم متفرجاً إذ سيتدخل لمنع استفراد إسلاميين متطرفين بإدارة أية دولة، كما حصل عندما تصدى المجتمع الدولي لحكم الطالبان القادم من القرون الوسطى. وكما نشهده الآن من العمل لتشكيل تحالف دولي إقليمي ضد دولة داعش التي تطبق الشريعة بوسائلها البربرية. علما ان تدخله لم يعد مسألة مبادئ إنسانية بل مصلحة عامة لأمنه واستمرار تقدمه.
جورج كتن
ميدل ايست أونلاين