داخل خيمة سوداء كبيرة وسط رمال الصحراء، تجتمع مجموعة من النساء المغربيات بملاحفهن التقليدية البيضاء والسوداء، وبسريّة وحذر شديدين يتقاذفن أبيات شعر “التبراع”، تعبيراً عن إعجابهن بهذا أو حبهن لذاك. وبعيداً عن عيون الأهل، يجلسن القرفصاء في مكانٍ ما لتعبّر إحداهن في كلمات رقيقة عمّا يختلج صدرها من إعجابٍ وهوى، فترد الصديقة ببيت آخر، وهكذا دواليك تتداور الأبيات بينهن غزلاً ومديحاً متحرراً من قيود الخوف من نظرة المجتمع.
هو بكل بساطة فنٌ من نوعٌ خاص لا تتقنه كل النساء، بل تمتاز به نساء قبائل “البيضان” جنوب المغرب وموريتانيا ومناطق أخرى مجاورة دوناً عن غيرهن. والمثير للغرابة أن كل هذا الغزل والكلمات الرقيقة يقف عند حدود الخيمة فلا يعرف المقصود به ولا يخرج عن دائرة أعز الصديقات.
الشعر المرفوض
“الأمر خطيرٌ جداً”، بهذه العبارات تشرح خديجة العبيدي، التي تعدّ من أشهر “المتبرعات” الصحراويات في المغرب، وتقول لـ “هافنيغتون بوست عربي” إنه رغم جرأة المرأة الصحراوية بإنشاد عبارات غزل من شطرين، “فإنها لا تملك الشجاعة للبوح بإعجابها لجميع الناس، سيما أسرتها الصغيرة وأفراد عائلتها، فهذا الشعر (مغضوب عليه) من المجتمع الصحراوي بحكم طبيعته المحافظة”.
شاهد أيضا
عندما ينال رجلٌ ما إعجاب المرأة الصحراوية، فهي لا تتردد في نظم كلمات تتغزل في محاسنه، أو كرمه، أو أي شيء آخر حاز على إعجابها، إلا أن المثير في الأمر أن ذلك الرجل لا يعرف أن تلك المرأة الصحراوية “المتبرعة” نظمت في حقه شعراً مليئاً بالغزل.
وتوضح خديجة أنها التقت العديد من نساء “المتبرعات”، إلا أنهن لا يستطعن الخروج للعلن، وذلك خوفاً من الفضيحة، وغالباً يكنّ متقدّمات في السن، ويرفضن مشاركة “التبراع” مع الأجانب، لأنهن تربّين على أن الأمر مخالف للعادات والتقاليد الصحراوية.
من قال إنه إباحي؟
وجرت العادة أن تجتمع النساء أو الفتيات من الجيل نفسه في جلسة خاصة في مناسبة معينة، بعيداً عن الأمهات أو الخالات والعمّات والجدّات. تبدأ إحداهن بقول “التبراع”، وذلك بإنشاد الشطر الأول لتتبعها المرأة الثانية والثالثة وهكذا. وفي سريّة مطلقة تنظم النساء شعراً قصيراً لا قصيدة، يحفل بالغزل العذري دون الإباحي، فتعبر فيه المرأة عن عاطفتها بأسلوبها الشعري.
كل الصحراويات “متبرعات”؟
جدير بالذكر أن القلة من الصحراويات تملكن ملكة “التبراع”، فهي موهبة تتميز بها بعضهن. وإلى جانب التبراع في نظم الكلام، فإن هذا الغزل الغنائي يحتاج إلى قلبٍ جريء يبوح بما يدور داخله. ومثله مثل أي شعر، يحتاج “التبراع” إلى نساء مختصّات، يستطعن اختيار الكلمات وتليينها كالعجينة للتعبير عن العشق والهوى.
تقول خديحة العبيدي إن غياب الاهتمام بهذا الشعر ثقافيا، يعود إلى المرأة المتبرعة، لأنها تفضل الاختباء وراء الستار، ولا تحبذ الظهور، وذلك لعوامل عدة، من بين أهمها، خوفها من المجتمع الذي سيحاكمها ويرفضها.
وعن تجربتها الشخصية، تضيف العبيدي أنها “إحدى أوائل شاعرات التبراع اللواتي ظهرن مباشرة للملأ، لأنها تود أن تزيل الستار عن شعر التبراع ليظهر إلى الوجود، وأن تعطي مثالا بأن إلقاء المرأة لذلك الشعر أمر عاد وموهبة يجب أن تفتخر بها”. وتقول أيضا إنها حاولت أن تطور هذا النوع من الشعر، لكي لا يكون مقتصرا فقط على الغزل، بل امتد من خلال قصائدها إلى المديح.
حسب المتحدثة ذاتها، فإن فن “التبراع” قديم جدا، نشأ بنشوء قبائل البيضان، وهو الاسم الذي يطلق على القبائل التي سكنت الصحراء جنوب المغرب إلى موريتانيا، ومن غرب الجزائر إلى شمال السنغال منذ قرون.
** عن الهافنغتون بوست