الرأي

بَيْنَ مدينة الأمْوات ومدينة الأحْياء

الكاتب والشاعر محمد النخال

كعَادتِه وكُلَّما ضاقَتْ عليه الدُّنيا بما رَحُبَتْ، خرجَ إلى ضاحِية المَدينة، تغْمُرُهُ سكِينَة مُؤَثِّرَة، لا يُكَسِّرُ جِدار الصَّمْتِ القابِع في دَواخِلِه، سِوى حَشْرَجَة لبعض الطّيور التّائهة عن أسْرابها، ظل يسِيرُ شارِدا في مسْرح الأفْكار، حتّى انْتَهى به المسِيرُ إلى ربْوة مُطِلة على المدينة، هناك جلس على صخْرة يُتابع أفُول الشمس نحو مغيبها، نظَرَ نحو المدينة، فانْتَبَهَ مدْعُورا وكأنه يَراها أوّل مرّة، تأمَّلَها فَباحَتْ له بكُلِّ أسْرارِها، فَرأى أنَّ كُلَّ ما فِيها قَدْ بُنِيَ عَلى باطِلٍ، حيْثُ شَطَرَتْها شَرائِعُ العَبثِ والنَّوامِيس الإنْسانية الجَائِرة إلى شَطريْن مُتبايِنَيْن، تفْصِل بينهما قنْطرة مُتَهالكة، وكأنها الحَدُّ الفاصل بين الوجُود والاَّ وُجود، بين التَّرف الفاجر والفقر المَقيت، نظر إلى شَطرها الأيمن، فإذا به نَصِيبُ الأقوياء الأغنياء، ونظر إلى شطرها الأيْسر، فإذا به للضعفاء الفُقراء، هناك بنايات شامِخة، ناطَحتْ بعنفوانها السّحاب، تنْعَمُ شوارعها بمصابيح تُقاوم بكبرياء جَحافل الظلام، وهناك أكواخ من بقايا فُتات قصدير مُتهالك، وكأنها سجن مُثْقَل بالقيود، تئن تحت وطأة الظلمة الخَرْساء، فتبْدُو على أعْتاب سفح الجبل كالخَفافيش المعَلّقة، وتتَحوّل صيْفا إلى أشباه عُلَب سَرْدين نُصِبتْ على الفحْم، تلْفَح أهلها بِحَرِّها المُعَتَّق، هذا كل ما جادَتْ به الحياة الظالمة كنَصيبٍ على التّعساء، الذين لفَظَتْهم مجاريها المُتَعفّنة، وأذاقتْهم من عذاب الفقر ومرارة العيش.

يا إلاهي! تلك إذا قِسْمةٌ ضِيزَى!

هؤلاء يتسَرْبلون في الحِلي والحُلل، يتفاخَرون ويتكاثرون في الأموال والأولاد، أما أولئك فزادُهُم من المآسي المُفْعمة بأشباح اليأس والقُنوط.

أطفال هؤلاء ينْحَرون المُرُوءة على مسارح التَّرف، ويعبثُون بالكرامة على أعْتاب الغنى، ويسْكُبون الخمور على شَرف العَذارى، ويحرقُون البخور على أنقاض لقْمة كل جائع مُحتاج ولا يُبالون، ويتوارثُون ما تركه أباؤهم وأجدادهم، كما يتوارثون نسمة الحياة. أما أطفال هؤلاء فيرضَعون العبودية من أثداء أمهاتهم، ويُلَقَّنون الخُنُوع والخُضوع مع الحروف الهجائية، وميراثُهم البؤس والتَّشرد.

الكالحون في الشّطر المتْعوس يحرثون، يزرعون، يجنُون، ويعْصِرُون مُكرهين على التَّلَون بألوان الطاعة العمياء والعبُودية الخرساء، التي تخضع رقابهم التعسة تحت أقدام المحتالين، والأثرياء في الشطر المسْعود، يملأون المطامر، ويشربون نخب شريعة الظلم التي استقوتهم وجعلتهم متَسيّدين.

على هذه القنطرة المشؤومة، يعبر كل مساء، كل أصناف المقهورين: كالِحُون، كادحُون، عمال أوراش البناء وقد تقوست ظهورهم، وخادمات بيوت، تجرعْن مرارة الذل والهَوان في بيوت الأغنياء، أو قضَيْن يومهن بين الحقول والمزارع عاملاتٍ، تتربَّصُ بهن ذئاب بشرية ضارية، يتسللون بين القطيع، ويختارون السمينة ويتركون النطيحة، يعبثون بالأجساد المتعبة لاستخلاص لذة العار بين صراخ وأنين القهر.
هاله ما رأى فصرخ في داخله:

أي مدينة هاته، التي كرَّسَتِ الفوارق الجائرة، التي أنشأتها قوانين المَدنِيَّة الطّاغية، وأيَّدَتْها شرائع اللبيرالية المُتَوحِّشة تحت أنظار الظُّلم، الذي نَصَّبَ نفسه قاضيا مُنْحازا، ولبس عباءة الجَوْر، وقضَى باسْتِنْزاف عَرق هؤلاء الكادحين، ليَرْوي جيُوب الأثرياء؟

أيُّ شريعة هاته التي تُبِيح مصَّ دماء الضعفاء كما تمتَصُّ رمال الصّحراء قَطرات النَّدى!

أيُّ شريعة هذه التي تحْمي طمّاعين جُشَعاء، يتْبَعون الدرهم في مَغاور الجِنّ لاستبعاد الآخرين.
تصاعدتْ من أعماقه زفَرات حارقة، وتساءل مُسْتَنْكرا:
ولكن لماذا يصمتُ هؤلاء المقهورون ويرضَخون لمشيئة الطُّغاة؟

هل صمْتهم هذا جاء صُدفة، أم أنه نتيجَة إقْناع قَسْري، تَمَّ من خلال السّيطرة على عُقولهم بدون عنْفٍ ظاهر، جعلهم يعتقدون بأنهم يُمارسون إرادتهم في الإختيار بكل حرية.

من جعلهم يؤمنون بأن هذا هو نصِيبُهم وحظُّهم من الحياة، حتى أصبح اسْتِسْلامهم وخضوعهم رسالة شُكر وعِرفان لأسْيادهم؟

أيها التُّعساء، إن كنتم تعتقدون بأنه بارتمائكم في أحضان أسيادكم إلى حد التّماهي، ستضْمنُون حق التواجد والأمن والأمان، فأنتم واهِمُون، ولا تدركون بأن في خنُوعهم هذا خيانة لذواتِكم، التي تسيَّدها اليأسُ والشك في قدراتها، وترمُون بها إلى عدم الإستقرار والتوازن والشعور بالسلبية.

أيها الكادحُون مهما كان اعتقادكم، فإنكم ستظلون في قاموس الاسْتعباد “الآخَرُون”.

انتبه من غفْوته مدْعورا، فإذا به سابح في أمواج الظلام، فقَفَل عائدا وغُصّة الغضب تسُدُّ حلقه، وقال: أيها الراقدون تحت الثرى لا عليكم فأنتم الأحياء أما هؤلاء فهم الأموات.
لكم الله أيها التُّعساء، لقد صدَق “جون بول سارتر” بقوله: الآخَرُون هم الجَحيم.

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى