وكالات

“فورين بوليسي” : أميركا أضرمت النار في الشرق الأوسط!

ستيف م . والت

الهجوم الذي نفذته إيران ضد إسرائيل، ليل السبت-الأحد الماضي، رداً على استهداف قنصليتها في دمشق، يكشف؛ من جملة ما يكشف؛ مدى سوء الإدارة الأميركية في التعامل مع الشرق الأوسط. وإذا لم نشهد تحولاً جوهرياً في السياسة الأميركية ستظل الأخطاء التي أشعلت المنطقة وظلّلت المستقبل بالمآسي والأهوال تتكرر، بحسب ستيف م. والت، في مجلة “فورين بوليسي”.

تُقنع إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسها بأنه حتى عشية عملية “طوفان الأقصى”، في 7 أكتوبر الماضي، كان الهدوء يعمُّ الشرق الأوسط، والأوضاع كانت أفضل من أي وقت مضى منذ عقود مضت. ومن هذا المنطلق، استجاب المسؤولون في الإدارة الأميركية للأحداث التي تلت “طوفان الأقصى” بطريقة زادت الطين بلَّة وجعلت الأوضاع تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وهم فعلوا ذلك مسترشدين بخطى أسلافهم في الإدارات السابقة (دونالد ترامب، باراك أوباما، جورج دبليو بوش، بيل كلينتون، وغيرهم). في ردّها الأولي على عملية “طوفان الأقصى”، سارعت الإدارة الأميركية إلى تأكيد ثلاثة أهداف رئيسية:

 

أولاً؛سعت إلى تثبيت الدعم المطلق لإسرائيل- قولاً وفعلاً- وذلك من خلال ما يلي: تسريع شحنات الذخائر والأسلحة الفتَّاكة والمساعدات الإنسانية واللوجستية والطبية، زيارات مكوكية عاجلة قام بها بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن ووزير دفاعه لويد أوستين، الإنخراط المنتظم في التشاور ومهام التخطيط مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، فتح جبهة دفاع “مستميت” عن إسرائيل في المحافل الدولية واستخدام حق النقض ضد قرارات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن الدولي وإنكار المجازر وجرائم الإبادة التي تُرتكب بحق الفلسطينيين في غزّة.

ثانياً؛منع تصعيد الصراع في غزة.

ثالثاً؛محاولة إقناع إسرائيل بضبط النفس، والحدّ من الضرر الذي يلحق بالمدنيين الفلسطينيين، وذلك بهدف الحد من الضرر الذي يطال الولايات المتحدة وسمعتها كونها الراعي والداعم الأكبر لإسرائيل.

وبإستثناء تفانيها في تنفيذ الهدف الأول (تزويد إسرائيل بكل ما يلزم لارتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي)، فإن الإدارة الأميركية فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة الحرب على غزة، لأن أهدافها كانت متناقضة بطبيعتها. فالدعم غير المشروط لم يكفِ قادة إسرائيل لكي يستجيبوا لنداءات ضبط النفس والحدّ من استهداف المدنيين- وليس مثل هذا التصرف بمستغرب. إسرائيل دمرت غزَّة بالكامل، وقتلت 34 ألف فلسطيني على الأقل حتى الآن (بينهم أكثر من 12 ألف طفل). والعالم أجمع، بمن فيهم المسؤولون الأميركيون، بدأوا يعترفون بأن ما ترتكبه إسرائيل في غزَّة هو جريمة إبادة جماعية مع سبق الإصرار والترصد، ومحاصرة الشعب الفلسطيني بالتجويع والتشريد وتحويل القطاع إلى مكان لا يصلح للعيش.

في الأثناء، تشتعل جبهات الإسناد لدعم المقاومة الفلسطينية: جبهة في البحر الأحمر، حيث ترابض جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن، وتستهدف السفن الإسرائيلية وتلك المتوجهة إلى إسرائيل. وجبهة عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، حيث يخوض حزب الله مواجهات يومية مع الجيش الإسرائيلي. وجبهة الحشد الشعبي في العراق. وهناك أيضاً غليانٌ يشتدُ يوماً بعد يوم في الضفة الغربية نتيجة تصاعد أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون بحق الفلسطينيين.

من يصبُّ الزيت على النار؟!

ردَّت إيران على إستهداف قنصليتها في دمشق، في الأول من أبريل الجاري، وهاجمت إسرائيل بأكثر من 330 مسيَّرة حربية وصواريخ باليستية و”كروز” مُجنحة. وهي تتوعد حالياً بشنّ هجوم أوسع وأقوى “إن  فكرت إسرائيل بالرد على الرد”.

بإختصار، كل ما حصل، وما يمكن أن يحصل، يضع المنطقة على فوهة انفجار حرب إقليمية قد تتطور إلى عالمية. ولأن الأميركيين، ومعهم كثيرون في مختلف أنحاء العالم، معتادون على سماع سردية أن إيران هي تجسيد لـ”الشر”، فقد يميل بعض القراء إلى إلقاء اللوم على طهران في كل ما حصل وما قد يحصل. على سبيل المثال، كانت القصة الرئيسية التي تمحورت حولها عناوين صحيفة “نيويورك تايمز“، الأسبوع الماضي، أن إيران “تُغرق” الضفة الغربية بالأسلحة بهدف إثارة الاضطرابات هناك!

ما يُراد من مثل هذه القصص، التي تٌسوقها “نيويورك تايمز” وغيرها، هو الترويج لسردية أن إيران تصب الزيت على نار مشتعلة بالفعل في المنطقة، فهل حقاً أن محاولات إيران تهريب أسلحة خفيفة إلى الضفة الغربية، أو غزَّة، فعلٌ شنيع؟ وهل من الممكن أن يكون ردَّها على قصف قنصليتها في دمشق ومقتل إثنين من كبار قادتها العسكريين مفاجئاً لأي عاقل؟

وفقاً لاتفاقيات جنيف، يحقُ لكلٍ من يعيش تحت “الاحتلال العسكري” مقاومة هذا الاحتلال، وبكل أشكال القوة. ولأن إسرائيل تسيطر على الضفة الغربية والقدس الشرقية منذ عام 1967؛ تحتلهما تقريباً؛ وتمضي في عملية قضم الأراضي وتوسيع المستوطنات حتى بلغ عدد المستوطنين غير الشرعيين أكثر من 700 ألف. كما تواصل عملياتها العسكرية وتجتاح المدن والقرى والأحياء وتقتل وتعتقل بشكل تعسفي. هناك مئات آلاف الفلسطينيين سقطوا ضحايا هذا “الاحتلال العسكري”. بالمقابل، لا تزال أعمال المقاومة تخضع لقوانين الحرب. فرغم بعض الإستثناءات القليلة التي تم فيها استهداف مدنيين إسرائيليين، تبقى مقاومة الاحتلال أمراً مشروعاً، وكذلك خيار دعم ومساندة الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال. ولا يمكن بأي حال اعتبار مناصرة الشعوب المحاصرة عملاً مُداناً. وبالتالي لا يجب إدانة إيران إذا ساندت الفلسطينيين- حتى لو كانت تفعل ذلك لأسباب وأهداف تخدم مصالها الخاصة وليس من منطلق التزامها العميق بالقضية الفلسطينية.

وعلى نحو مماثل، لا يمكن اعتبار الهجوم الإيراني على إسرائيل – والذي انحصر في إطار الرد على استباحة قنصليتها ومقتل اثنين من كبار قادة الحرس الثوري – على أنه “دليلٌ على العدوانية”، خصوصاً وأن طهران أعلنت مراراً وتكراراً أنها لا ترغب في التصعيد وتوسيع نطاق الحرب، وتصرفاتها كانت دائماً على هذا الأساس. في الواقع، إيران ردّت بطريقة مدروسة جداً، ونجحت في إيصال تحذير شديد اللهجة إلى إسرائيل يؤكد بأنها تستطيع الرد، وبقوة، إن هي صمّمت على ذلك. ويؤكد ردها أيضاً أنها حقاً لا ترغب في مزيد من التصعيد، والدليل هو الطريقة التي ردَّت بها والتي كان من الممكن جداً أن تكون أكثر عنفاً. أي كان بإمكان إيران أن تُلحق ضرراً أكبر بكثير بإسرائيل لكنها لم تفعل. فكل ما أرادته هو ببساطة “إستعادة الردع وتثبيته”. أليس هذا ما يفعله الأميركيون والإسرائيليون في كل مرة يستخدمون فيها القوة المفرطة هنا وهنا؟!

ودعونا لا ننسى أن الولايات المتحدة هي التي “تُغرق” الشرق الأوسط بالأسلحة، ومنذ عقود طويلة. فهي التي تُغدق على إسرائيل- سنوياً- ذخائر مُحرمة دولياً وأسلحة فتَّاكة ومعدات عسكرية متطورة تُقدر قيمتها بمليارات الدولارات، ولا تفوّت فرصة إلا وتستغلها لتأكيد دعمها الثابت وغير المشروط لإسرائيل.

هذا الدعم لم يهتز قيد أنمُلة برغم كل أعمال القتل والتدمير والتجويع والتشريد والإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطيين. وبلينكن قام بزيارته الأخيرة لإسرائيل على وقع أكبر عملية قضم للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية منذ العام 1993. لم يرمش لواشنطن جفنٌ عندما دمرت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، بينما لم تتأخر عن إدانة هجوم الإكوادور الأخير على السفارة المكسيكية في كيتو! على العكس تماماً. سارع كبار مسؤولي “البنتاغون” للتوافد إلى القدس من أجل مواساة إسرائيل “لأنها تلقت أول ضربة إيرانية مباشرة على أراضيها”. وحرص بايدن على تأكيد التزام إدارته، وإلتزامه الشخصي، تجاه حماية أمن إسرائيل، قائلاً “دعمُنا راسخٌ، وقوي مثل الفولاذ، وغير قابل للتغيير”.

فهل بعد كل هذا يمكن لأي أحد أن يستغرب كيف أن المسؤولين الإسرائيليين تجاهلوا النصائح الأميركية بـ”ضبط النفس”؟

لا عزاء للفلسطينيين

تميل الدول التي تتمتع بسلطة مطلقة إلى إساءة استخدام هذه السلطة. وإسرائيل ليست استثناءً. ولأنها أقوى بكثير من الفلسطينيين، وتتمتع بقدرات تفوق تلك التي لدى إيران- بفضل الدعم الغربي لها؛ الأميركي على وجه الخصوص؛ فهي تستطيع أن تفعل ما تريد، وترتكب شتَّى أنواع الجرائم والإنتهاكات بحق الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من دون أن تتعرض لأي مساءلة أو عقاب. وهذا ما تفعله، وفعلته طوال الـ75 عاماً الماضية. إن عقوداً من الدعم الأميركي السخي وغير المشروط مكَّن إسرائيل من فعل ما تشاء من دون قيود، ما زادها عدوانية وتطرفاً مع مرور الوقت.

المرة الوحيدة التي تمكن فيها الفلسطينيون من جعل قادة إسرائيليين (مثل إسحاق رابين) يقبلون بمفاوضات تسوية تفضي إلى الاعتراف بحقهم في إقامة دولة فلسطين المستقلة، كانت في تلك المناسبة النادرة التي حشدوا فيها مقاومة فعَّالة- الانتفاضة الأولى (1987-1993). فلسوء الحظ، إسرائيل قوية جداً ومنافقة، والأميركيون لم يكونوا يوماً وسيطاً عادلاً بل هم منحازون بشكل قاطع للمصالح الإسرائيلية، بينما الفلسطينيون طرف ضعيف جداً ومعزول.. وطوال تاريخ نضالهم لم يحصلوا على صفقة واحدة يمكنهم القبول بها من دون تقديم تنازلات مميتة.

إذا كُنتَ – وبعد كل ما قرأته أعلاه – لا تزال مستاءً من قيام إيران بتهريب أسلحة خفيفة إلى فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزَّة، فاسأل نفسك كيف سيكون شعورك لو كان الوضع معكوساً؟ تخيل، مثلاً، أن مصر والأردن وسوريا فازت في “حرب الأيام الستة” عام 1967، وأن ملايين الإسرائيليين اضطروا للفرار. تخيل أن الدول العربية المنتصرة ساعدت اللاجئين الفلسطينيين في ممارسة “حق العودة” وإقامة دولتهم المستقلة على بعض أو كل أراضي فلسطين. ولنفترض أيضاً أن مليون يهودي إسرائيلي، أو أكثر، انتهى بهم المطاف كلاجئين عديمي الجنسية محاصرين في جيب ضيق مثل قطاع غزة. ثم تخيل أن مجموعة من مسلحي منظمة “أرغون”(*) ومتشددين آخرين نظموا “حركة مقاومة”، وسيطروا على ذلك “الجيب”، ورفضوا الاعتراف بالدولة الفلسطينية المفترضة، وشرعوا في حشد الدعم والتأييد والتعاطف من مختلف أنحاء العالم، وبدأوا في تهريب الأسلحة إلى “الجيب” لاستخدامها في مهاجمة المستوطنات والبلدات في “الدولة الفلسطينية” التي تأسست مؤخراً. ثم لنفترض أن “الدولة الفلسطينية” ردَّت بحصار “الجيب” وتنفيذ اعتداءات عسكرية متكررة على المدنيين “هناك”.

في مثل هذه الظروف المتخيلة، مع أي جانب تعتقد أن الحكومة الأميركية ستقف وتدعم؟ وهل كانت لتسمح بنشوء وضع كهذا من الأساس؟ الإجابات واضحة، وتتحدث بإسهاب عن الإنحياز المطلق الذي تتبعه واشنطن في إدارة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

المفارقة المأساوية هنا هي أن الأفراد والمنظمات في الولايات المتحدة الذين كانوا الأكثر تحمساً لدعم وحماية إسرائيل من دون شرط أو قيد، ودفعوا بكل الإدارات الأميركية المتعاقبة على فعل الشيء نفسه، هم- في الواقع- أكثر من ألحق الضرر بإسرائيل وببلدهم (أميركا).

ولنتأمل هنا إلى أين وصلت “العلاقة الخاصة” بين أميركا وإسرائيل على مدى السنوات الخمسين الماضية. لقد فشل حل الدولتين فشلاً ذريعاً، وما يزال مستقبل الفلسطينيين من دون حل نهائي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن اللوبي اليهودي- الصهيوني جعل من المستحيل على رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين الضغط على إسرائيل. كان الغزو الإسرائيلي للبنان، في عام 1982 جزءاً من مخطط أحمق كان هدفه تعزيز السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وسبباً في ظهور فصائل المقاومة في لبنان، وأبرزهم حزب الله، الذي يشكل اليوم تهديداً كبيراً لإسرائيل.

لقد عمل المسؤولون الإسرائيليون على إضعاف السلطة الفلسطينية، وعرقلوا كل تقدم في مسيرة “حل الدولتين”، الأمر الذي ساهم بدوره في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه- وآخرها عملية “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة.

هذا الوضع التعيس هو ما دفع إيران لمناصرة القضية الفلسطينية، والاقتراب من امتلاك سلاح نووي، والتغلب على محاولات عزلها من قبل أميركا والعالم عموماً. إذا كانت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) وحلفائها قادرين على التأمل الذاتي، فإنهم سيشعرون حكماً بالخزي لأنهم ساعدوا إسرائيل على ما ارتكبته بحق نفسها وبحق حاميتها (أميركا).

وعلى النقيض من ذلك، فإن الأميركيين الذين انتقدوا بعض تصرفات إسرائيل تعرضت سُمعتهم للتشويه واتهموا زوراً بمعاداة السامية، وبأنهم كارهين لليهود وبما هو أسوأ من ذلك. بينما في الواقع هؤلاء كانوا يحاولون الترويج لسياسات لو أُفسح المجال لتطبيقها لكانت إسرائيل أكثر أماناً، ولكان مئات الآلاف من الفلسطينيين لا يزالون على قيد الحياة، ولكان الشرق الأوسط ليكون أكثر هدوءاً… وقبل هذا وذاك، كانت الولايات المتحدة نفسها لتكون في حال أفضل بكثير مما هي عليه اليوم؛ كانت على الأقل حافظت على سمعتها كـ”دولة قانون تحمي الحريات والحقوق”! وكذلك لما كان هناك من سبب يدفع إيران، أو غيرها، لتهريب أسلحة إلى الضفة الغربية وغزَّة لو كان للفلسطينيين دولة مستقلة قابلة للحياة. ولما كان هناك من سبب يجعل الإيرانيين يعتقدون أن بلادهم ستصبح أكثر أمناً إذا امتلكت سلاحاً نووياً ولكانت طهران أبعد ما تكون عن امتلاك قنبلة نووية.

ولكن، إلى أن نشهد تحولاً جوهرياً في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، فإن كل تلك الاحتمالات المُفعمة بالأمل ستظل بعيدة المنال وضرب من الخيال.. وسيبقى خطر تكرار الأخطاء التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه قائماً، وسيبقى شبح المآسي والأهوال يُظلل الشرق الأوسط وربما العالم كله.

– ترجمة بتصرف عن “فورين بوليسي“.
– ستيف م، والت، كاتب في مجلة “فورين بوليسي”، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة “هارفارد”.
ـ المصدر: موقع “180”

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى