وطنية

“كيرا” أسطورة النكتة الآنية، حكيم في جلباب “بوهالي”

wladalhay4.5973952308E+26

“كيرا” البوهالي الحكيم، الذي ولدت معه الكلمة الطريفة والنكتة الساخرة الآنية التي تهزك وتسافر بك إلى عالم بعيد، تنعشك نجومه وسحبه إلى حد الجنون. له قاموسه اللغوي الخاص، ينهل منه جملا وعبارات تفاجئك وتبهرك. يطوقك سكونه وهدوؤه، ويرغماك على الإنصات بتمعن، والإنصياع إلى نظرات عينيه الثاقبتين.

إنه زاهد متصوف، لايختار كلماته اعتباطا، بل تخرج من قلبه بلا استئذان. صولاته وجولاته، يعرفها الصغير والكبير من أبناء الحي المحمدي ومن خارجه، اشتهرت وانتشرت مستملحاته بشكل واسع، وامتدت خارج نطاق مدينة الدار البيضاء.

غالبا ما يستند في نكته على سياق زمكاني لحظي، يتسخرج منه طرائف مرتجلة، غير مصطنعة. لايأبه لمن حوله، فالمكان يتسع له وحده. فهو الملك والاخرون مجرد جالسين، كومبراس يؤثث بهم مسرحياته الإرتجالية، ويستلهم بواسطتهم أفكاره، لتكون متناغمة ومنسجمة مع موضوع اللحظة. فكم من نكتة ولدت بناء عن حركة ما، تصرف ما، منظر ما، كلام ما، تهيء ما، كلها مقومات تحدد أسباب النزول، وتمهد لإخراج طرائف خالدة، التصقت به على مر السنين، تداولها الأطفال، الشباب والشيوخ، وصارت حديث المقاهي، الجلسات والأعراس وحتى الحمامات الشعبية.

عندما يتكلم “كيرا” تتوقف عقارب الساعة ويستريح معها الزمن لفترة، ليفسح المجال لإبداعاته الطريفة المستنبطة من الواقع المعاش ومن طبيعة الفضاء المؤثث له. نكته ليس لها موضوع واحد محدد، بل هي مجرد خواطر وأراء وملاحظات مضحكة، يستغلها لإضفاء نوع من السخرية والنقد اللاذع.

وغالبا ما يكون مجالسوه مهيئين في كل لحظة للمفاجأة. عندما يختار “كيرا” السكوت لفترة طويلة، فلأنه يعيش مخاضا داخليا، يخاطب فيه حواسه لانتقاد ضمني لكل الكلام الدائر حوله، ثم يعيده في قالب ساخر مضحك جدا، قبل أن ينقض كالأسد المفترس على فريسته.

مستملحات وطرائف ونكت “كيرا”،غالبا ماتكون لاذعة وساخرة، لاتخضع لأية ضوابط، فهو يتلاعب بالكلمة، ويمنحها أسلوبه الساخر، فتغدو ذات معنى فلسلفي، ميتافيزيقي، في حلة ضاحكة وساخرة. يجعل من الوضعية العادية البسيطة، موقفا يثير انتباه الآخرين.

مرة كان “كيرا” منهمكا في ممارسة إحدى ألعابه المفضلة (لعبة الكولفازير) بقاعة ألعاب موجود بحي درب مولاي الشريف، وقف بجانبه شخص ذو بشرة سوداء، يرتدي (فوقية) بيضاء، وشرع في توجيه “كيرا”: أضرب هادي، زيد هادي”، استشاط صاحبنا غضبا وخاطبه “أضرب هادي زيد هادي،واش أنا كنبيع الكرموس الهندي”. لكن ورغم كل هذا، كرر الشخص نفس العملية، وواصل إزعاجه. هذه المرة فقد “كيرا” صبره وحط العصا وقال “سير وانت داير بحال البولفافة”. البولفافة كما يعرف الجميع، هي قطعة صغيرة من اللحم، قد تكون من الكبد، أو الرئة، ذات لون أسود، ملفوفة وسط قطعة أخرى  بيضاء من “الشحم”. وضعية استغلها “كيرا” للسخرية من الشخص الذي حاول استفزازه، وحولها إلى وصف فريد، متناغم مع هيئته.

مرة أخرى وبعد المقابلة التي أجراها المنتخب المغربي لكرة القدم مع نظيره الألماني، خلال الدور الثاني من كأس العالم 1986 بالمكسيك، والتي انهزم فيها بإصابة مقابل لاشيء، بعدما سجل اللاعب الألماني (ماتيوس) إصابة قاتلة من ضربة خطأ مباشرة على بعد 25 متر، على إثر قديفة مرت من وسط حائط الدفاع، خدعت الحارس الزاكي. هذه الوضعية استغلها “كيرا” عندما كان مارا أمام إحدى المساجد خلال صلاة الجمعة، سمع الإمام ينصح المصلين الذين كانوا واقفين بالساحة الموجودة خارج المسجد، قائلا “سووا الصفوف، حاذوا بين المناكب. إن تسوية الصفوف من تمام الصلاة”. تدخل “كيرا” وقال بصوت مسموع “كون سويتوا الصفوف خلال مباراة المغرب ألمانيا، كون كاع ما تقصينا”.

سرعة البديهة وذكاء الملاحظة، هي القوة الضاربة التي كان يتمتع بها “كيرا”.

في إحدى الأيام، وبينما كان “كيرا” يبيع الحريرة في أحد الأسواق، خاطبه أحد الزبائن “واااا سي كيرا حشومة عليك، هاد لحريرة لقيت فيها سراق الزيت” أجابه “كيراّ” واش مخلص درهم أوباغي تلقى فيها دجاجة”.

خفة دم “كيرا” وردود أفعاله السريعة الساخرة، كانت ترعب جالسيه، يتحاشى أغلبهم الدخول معه في سجال، لأن ذلك محكوم بالفشل من جانبهم، نظرا لقدرته على التقاط المفاهيم وإعادة صياغتها بطريقة قوية، تجعل الكيل يميل كفته، من أجل الإستمتاع بطرائف أخرى .

يحكى أنه في إحدى الأيام كان “كيرا”، متواجدا بمنزل الفنان العربي باطما رحمه الله، وكانت علاقتهما مبنية على الصدق والعفوية وتبادل النكت والطرائف والمستملحات، في إطار من الإحترام المتبادل. وكانت جلسات الإستئناس تكون غالبا بمنزل والدة العربي باطما. وحدث ذات مرة أن دخل عليهما الفنان عبد الوهاب الدكالي، بحكم الصداقة التي كانت بينهما. لم يكن الدكالي يعرف بعد “كيرا” الذي كان متواجدا هناك. لم ينتبه إليه، وشرع في الحديث مع باطما، مخبرا إياه أنه بصدد الإنتهاء من أغنية “كان يامكان”، فطلب منه العربي غناء مقطع منها. وبينما كانا يتحدثان، كان “كيرا” غير ابه لما يجري حوله. وعندما بدأ عبد الوهاب الدكالي يغني مقطع “في يوم من الأيام، ولد شيخ لبلاد، على جواده كان هواد، شاف غزالي في الواد، خطفها وزاد، خلي دمعي عليها هواد، ماقدرت عليها نصبر”. بعد سماع هذا المقطع الغنائي، تدخل “كيرا” مخاطبا الدكالي “قولبك أصاحبي”، قبل أن يتحول المكان إلى هستيريا من الضحك .

تدخلات “كيرا” كان لها وقع نفسي على كل الذين حضروا جلساتها، كانت تحول النقاش وتؤثر فيه، تنسيهم مضمون الموضوع الرئيس .

في إحدى الليالي وقعت جريمة قتل بدرب “سوسيكا”، المكان الذي يقطن فيه “كيرا”، راح ضحيتها أحد المواطنين. أثناء التحقيق، حامت الشكوك حول هوية المجرم الذي اقترف هذه الجريمة. إذ توصلت عناصر الأمن بمعلومة تقر بأن المجرم أسمر اللون. لتعطى الأوامر وقتها لاستدعاء جميع المواطنين القاطنين بالحي المحمدي، الذين لهم سحنة سمراء أو سوداء للحضور إلى مصلحة الأمن .

حقائق 24

جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى