المجتمع المدني : وقفة مع المفهوم …

سفيان الكمري : باحث جامعي

 

 
ما أكثر من نظر للمجتمع المدني , وما أكثر من استقبل المفهوم باعتباره دواء كل داء وشفاء كل مرض مجتمعي مزمن , فالمجتمع المدني في أذهان كثيرين يعتبر الجواب الشافي عن أزمة الديمقراطية وكذلك البيروقراطية المتفشية في الأقطار والأمصار , وهو أيضا الحل الفعال لأزمة سيادة الدول واستقلالها وغيرها من الأزمات السياسية الحادة , لكن في المقابل قل من تجده ينشغل بالبحث في المفهوم أو على الأقل وضع ذلك في جدول أعماله , ومن هنا حق لنا الحديث عن أزمة مفهوم المجتمع المدني في وطننا المغربي وحتى العربي , ولعل ذلك راجع بالأساس إلى إشكالية الصراع حول الأولوية بين التنظير والواقع والتي لا يبدو أنها في الطريق إلى الحل , فهي أشبه بإشكالية من يسبق من ؟ : ” الدجاجة أم البيضة ”

 

ودورنا في هذا المقال الذي لا ندعي فيه إيجاد حل لإشكالية مفهوم المجتمع المدني بقدر من نعتبره أرضية ممهدة لحل الإشكال , فدورنا إنما الوقوف عند تطور المجتمع المدني وانعكاس ذلك على مفهوم المجتمع المدني وبنيته .

 

 
لقد بدأ التفكير في المجتمع المدني في غياهب القرون المظلمة بأوربا حيث الصراع مشتد على السلطة { الزمنية منها والدنيوية } بين أسياد الكنيسة وأصحاب الحكمة من الفلاسفة والمتنورين , غير أن المجتمع المدني في هاته المرحلة اتخذ طابعا فلسفيا محضا , إذ ارتبط ارتباطا وثيقا بنظريات العقد الاجتماعي التي بنت صرحها وبنيانها على معطيات افتراضية خيالية لا حقيقية تجسدت في الفصل بين المجتمع الطبيعي القائم على الولاءات العشائرية والوشائجية الفطرية والمجتمع المدني المرتبط بالاتفاقات الإرادية الواعية بين أعضاء المجتمع , إن ما سبق يمثل المرحلة الأولى من مراحل التفكير في مفهوم المجتمع المدني .

 
ومن التقابل بين المجتمع المدني / السياسي والمجتمع الطبيعي إلى التقابل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي انتقل تنظير المنظرين وتفكير المفكرين , وتلك مرحلة ثانية من مراحل التفكير في المجتمع المدني , حيث أصبح الحديث عن استقلال كيان المجتمع المدني عن الدولة وآلياتها القهرية , مما يعني النظر إلى الدولة كمجال مذموم مليء بالتناقضات , من هنا نشأت فكرة معاداة الدولة التي نمت مع انتشار أفكار المذاهب الفوضوية في أوربا .

 
انتقل التفكير في المجتمع المدني في مرحلة ثالثة من مجرد الفصل بين الدولة { المجتمع السياسي } والمجتمع الطبيعي { المجتمع الفطري } إلى تفكير معمق في عزل المجتمع المدني عن المجتمع الاقتصادي { البورجوازي } مما يعني منح المجتمع سلطة إنتاج نفسه خارج تدخلات السوق والسياسة .

 

وبغاية الابتعاد عن مجال السلطة من حيث السعي إليها لا المشاركة فيها بدأ التفكير في إخراج الأحزاب السياسية عن منظومة المجتمع المدني خصوصا في ظل كتابات غرامشي التي خلقت ” بلبلة ” في مفهوم المجتمع المدني , نفس النقاش برز فيما يخص موقع النقابات في مفهوم المجتمع المدني , خصوصا وأن العضوية في كثير من النقابات { خصوصا المهنية } تكون غير إرادة , وهو ما يعني التعارض مع أحد أهم مبادئ المجتمع المدني الذي هو الإرادة … بعد هاته الأشواط التي قطعتها عملية التفكير في المجتمع المدني تبلور المفهوم الإجرائي / القانوني الذي يعتبر بمثابة عملية تدشين المفهوم النهائي للمجتمع المدني من حيث هو مجموعة من المنظمات الإرادية الطوعية والتي تعمل وتشتغل في مجالات مختلفة منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والسياسية والحقوقية والبيئية , وذلك من أجل تحقيق أهداف متعددة غير السعي إلى السلطة وتوزيع الربح بين أعضائها ” .

 
إن المفهوم القانوني لا يسعفنا في الوصول إلى إطار تحليلي ونقدي للمجتمع المدني , إنه بقدر يسره بقدر عسره , فإذا كان المفهوم القانوني للمجتمع المدني يعيننا إجرائيا في ضبط المنظمات المدنية والجمعيات من حيث شروطها وإجراءات تأسيسها وأنشطتها ومبطلاتها … فإنه في الوقت ذاته يفرض علينا ” الأسلوب الميكانيكي ” في التعامل مع المفهوم , إذ لا يسمح لنا بالقفز إلى تحليل بنية المجتمع المدني وكنهه .

 

 
المجتمع المدني ككيان تحليلي يستلزم مجموعة من اللوازم والعناصر النظرية أهمها نشوئه في ظل دولة { بالمفهوم الواسع } مستقلة وذات سيادة , وهو ما يعني نفي وجود مجتمع مدني في البلاد التي إما لم تنعم بالاستقلال الكلي { الحالة الفلسطينية } أو ما تزال تعيش في ظل حروب أهلية وأزمات سياسية حادة { الصومال , اليمن , سوريا … } , غير أن استقلال الدولة وسيادتها لا يكفيان لقيام مفهوم المجتمع المدني بل لابد أن تكون تلك الدولة ديمقراطية وإلا فلا . ولهذا كثر الكلام في السنوات الأخيرة عن الربط بين الديمقراطية والمجتمع المدني , إنه من هذا المنظور نرى أن مفهوم دولة الحق والقانون كمفهوم بارز في حقل القانون الدستوري والمؤسسات السياسية يكفي لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني , وهذا يعني كذلك نفي وجود مجتمع مدني في دولة مستبدة أو بوليسية حسب الحالة .

 

 
إضافة إلى عنصري الدولة والديمقراطية هناك عنصر ثالث لازم لقيام مفهوم المجتمع المدني هو عنصر المواطنة من حيث هي ” ميثاق اصطناعي بين الأفراد والدولة يتحمل بموجبه كل طرف التزامات , ويتمتع بحقوق ” , ويفهم من هذا أن المجتمع المدني يتنافى مع مفاهيم الولاء الناتج عن القرابة أو الدم أو الدين أو العرق أو اللغة وإلى غير ذلك … كذلك من لوازم مفهوم المجتمع المدني وجود قطاع خاص مهيكل ينضاف إلى القطاع العام الرسمي ليصبح المجتمع المدني قطاعا ثالثا .

 

 
تتبين مما سبق ضرورة العمل على تحيين تصوراتنا حول المجتمع المدني وإعادة النظر فيها بتمييز صحيحها من سقيمها , هكذا فمن يعتبر القبيلة أو العشيرة مثلا مجتمعا مدنيا يسقط لا محالة في التحوير على أساس أن مفهومي القبيلة والعشيرة ظهرا في مرحلة سابقة لنشوء المجتمع المدني , بل من لوازم المجتمع المدني إقصاء الانتماءات الطبيعية واللاإرادية من كيانه , ومن يعتبر المسجد أو الزاوية مجتمعا مدنيا يسقط في التزوير على أساس أن هاته الإطارات تقوم على مفهوم ” الولاء والبراء ” مما يتنافى مع المواطنة , ومن يعتبر حركات المقاومة والتحرر الوطني مجتمعا مدنيا يسقط في التعطيل على أساس أن أن المجتمع المدني يقوم وينشأ في ظل وجود دولة بالمفهوم المومأ إليه أعلاه وليس العكس , ومن يحصر مفهوم المجتمع المدني في الجمعيات يقع في الاختزال … فبين التحوير والتزوير والتعطيل والاختزال تظهر أهمية القيام بوقفة نظرية مع مفهوم المجتمع المدني

أترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *